إلهامي الميرغني يكتب: الطريق إلى يناير
يتصور البعض خطأ أن ثورة 25 يناير كانت نتيجة دعوة أطلقها الشباب عبر فيسبوك للتجمع يوم عيد الشرطة أو كرد فعل لاستشهاد خالد سعيد فقط. لكن الحقيقة ان الطريق إلى يناير شمل مخاضًا كبيرًا وعسيرًا عبر سنوات ممتدة. وقد بدأ المخاض الثوري بعد التغيير الوزاري المصري في يوليو 2004، عندما صاغ ثلاثمائة من المثقفين المصريين والشخصيات العامة التي تمثل الطيف السياسي المصري بأكمله وثيقة تأسيسية تطالب بتغيير سياسي حقيقي في مصر، وبإنهاء الظلم الاقتصادي والفساد في السياسة الخارجية. واختار الموقعون تحويل مشروعهم لمشروع حركي، وتوافقوا على أن يكون رفضهم للرئيس المصري حسني مبارك هو أساس حركتهم، ومن هنا جاء اسم الحركة “كفاية”.
اعتمدت حركة كفاية أسلوب التظاهر في أغلب محطاتها المعارضة للنظام المصري ورفعت شعار “لا للتمديد،لا للتوريث”. وتواكب معها ظهور حركة المدونين والتي اشتهر منها مدونة منال وعلاء (منال بهي الدين حسن وعلاء سيف) والوعي المصري لوائل عباس وعشرات المدونات الشبابية التي عبرت عن رفض الواقع السياسي ومشروع التوريث وتبحث عن طريق لتغيير جذري.
كما تواكب مع هذه الأحداث تحركات نادي القضاة في 2005-2006 والتي تمحورت حول الانتخابات البرلمانية. ففي مايو 2005 قررت الجمعية العمومية لنادي القضاة إصدار بيان يتضمن تهديداً صريحاً بالامتناع عن الإشراف على الانتخابات البرلمانية التي كان مزمعاً عقدها في نهاية العام إذا لم تتم الاستجابة لمطالبه المتمثلة في إقرار قانون السلطة القضائية المقترح من جانب القضاة وتغيير قانون الانتخابات بحيث يُعطى القضاة حق الإشراف الكامل على العملية الانتخابية.
الطبقة العاملة علي الطريق الي يناير
شهدت الحركة العمالية نهوضًا احتجاجيا كبيرا منذ مطلع الألفية الجديدة وما بين سنة 2000 وسنة 2010 حدث أكثر من 3313 احتجاجا عماليًا شملت كل قطاعات العمل مع صعود للحركة الاحتجاجية بين موظفي الحكومة بشكل بارز. وفي سنوات الجمر حدث 202 احتجاج سنة 2005 و222 احتجاجا سنة 2006 و692 احتجاجا سنة 2007 و447 احتجاجا سنة 2008 و478 احتجاجا عام 2009 و530 احتجاج عمالي في عام 2010.
عام 2008 شهدت مصر أول محاولة في التاريخ الحديث للعصيان المدني الذي انطلق في المحلة الكبرى حيث تم إسقاط صورة مبارك ودوسها بالأقدام.
كما اعتصم موظفي الضرائب العقارية من كل محافظات مصر في شارع حسين حجازي مطالبين بمساواتهم بموظفي الضرائب العامة وعلى بعد خطوات من مجلس الشعب ومجلس الوزراء واستمر الاعتصام 14 يوما ليشكل علامة فارقة في تاريخ النهوض العمالي.
كما كان مجلس الشعب على مدي آخر خمس سنوات ملاذا للمحتجين من العمال ومختلف القوي الاجتماعية التي كانت تتوافد للتظاهر والاحتجاج أمام مجلس النواب.
على صعيد التنظيم النقابي المستقل استطاع موظفي الضرائب العقارية انتزاع أول نقابة مستقلة منذ مارس 1954 تبعها اتحاد أصحاب المعاشات ثم نقابة المعلمين المستقلة وأخيرا نقابة الفنيين الصحيين التي أعلنت عن وجودها قبل أيام من الثورة.
على صعيد التشريعات تم تنظيم عدة حملات لتعديل القوانين منها حملة قانون النقابات في مركز هشام مبارك وحملة اخري لتعديل قانون النقابات تبنتها دار الخدمات النقابية والعمالية. كما تم رفض تعديلات قانون التأمينات الاجتماعية وتشكلت لجنة الدفاع عن أموال المعاشات وحماية الحقوق التأمينية إضافة إلى اتحاد أصحاب المعاشات.
كما استخدمت الحركة العمالية أسلوب التقاضي وانتزعت عشرات الأحكام بعودة عمال مفصولين او تعويضهم ووقف خصخصة بعض الشركات وتوج ذلك بحكم مجلس الدولة الذي كسبه الأستاذ خالد علي المحامي لصالح النقابي العمالي ناجي رشاد بإلزام الحكومة بتحديد حد أدني للأجور. لذلك كانت الطبقة العاملة خلال سنوات الجمر تستخدم كافة الوسائل الكفاحية التي جعلتها في طليعة قوي التغيير.
لكن عندما انطلقت ثورة 25 يناير كان العمال يتابعون عن بعد وشاركوا في المظاهرات واعتصامات الميادين كأفراد وليس كطبقة ولكن في فبراير تغيرت الموازين وبدأت حركة احتجاجات واسعة شملت كل محافظات مصر. وفي شهر فبراير 2011 وخلال الاعتصام وسقوط مبارك حدث أكثر من 489 احتجاجا عماليًا ، وعلى امتداد عام 2011 حدث أكثر من 1314 احتجاجا عماليًا فكانت الطبقة العاملة حاضرة وبقوة واستمرت في حركتها حتى 30 يونيو حيث بدأ الحصار.
عندما أعلن الدكتور أحمد حسن البرعي وزير القوي العاملة في حكومة الثورة عن إعلان الحريات النقابية في مارس 2011 انطلقت حركة الاستقلال النقابي وتشكلت أكثر من 1500 نقابة مستقلة إضافة الي النقابات التي ولدت قبل يناير.
الفلاحون على الطريق إلى يناير
شهدت المسألة الزراعية في مصر تغيرات كبري على مدي العقود الأخيرة منذ أيام السادات حيث تم إلغاء الحراسات وعودة الأراضي للملاك الاقطاعيين وورثتهم ثم كانت الضربة الكبرى بتعديل قانون الإيجارات الزراعية عام 1992 وفقدان أكثر من مليون فلاح لحيازاتهم الأمنة وتفجرت احتجاجات فلاحية عند بدأ تطبيق القانون واعتقل عدد من الفلاحين والقيادات بينهم الأستاذ حمدين صباحي، وتفجرت احتجاجات في العديد من القري التي بدأت تعاني من التعدي علي ملكيات الإصلاح الزراعي المستقرة منذ سنوات وطردهم من الأرض ثم الأراضي المملوكة للأوقاف المصرية.
وتشكلت “لجنة التضامن مع فلاحي الإصلاح الزراعي” التي كانت صوتًا معبرًا عن هموم الفلاحين. و حدثت اشتباكات دامية في بعض القري مثل سراندو بمحافظة البحيرة عندما هجمت الشرطة لإعادة الأراضي لعائلة نوار فخرجت القرية تدافع عن ملكيتها وحياتها وسقطت الشهيدة نفيسة المراكبي وتم القبض على العديد من أبناء القرية متهمين بمقاومة السلطات ثم برأتهم المحكمة.
تفجرت حركات فلاحية في دكرنس والرحمانية وعزبة أحمد راشد بأشمون وعزبة البارودي وبهوت وطوسون بالإسكندرية والعامرية وعزبة الأشراك بشبراخيت وعزبة العمرية بدمنهور محافظة البحيرة والعديد من القري المصرية وقد تكرر ت الاحتجاجات فور رحيل مبارك لكن استعادة الدولة قوتها وقمعت بقوة كل احتجاجات الفلاحين حتى أحداث سرسو بالدقهلية.
تحركات المهنيين
عندما أحكمت جماعة الأخوان المسلمين قبضتها على النقابات المهنية وعجز الحزب الوطني عن المواجهة والتوازن تمت مصادرة النقابات المهنية في مصر بصدور القانون رقم 100 لسنة 1993 والذي جمد العمل في كل النقابات المهنية لكن ذلك لم يوقف المقاومة. وعندما تم فرض الحراسة على نقابة المهندسين تشكلت مجموعة ” مهندسين ضد الحراسة” ثم مجموعة ” المهندسين الديمقراطيين” كما شكل الأطباء “جماعة أطباء بلا حقوق” وشكل المعلمون جماعة ” معلمون بلا نقابة” واتحاد المعلمين المستقل والعديد من الأشكال التنظيمية لمواجهة تجميد النقابات المهنية.
كما شكل أساتذة الجامعات “حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات” والتي خاضت معركة كبيرة لتحرير الجامعات من السيطرة الأمنية وتحسين أجور أعضاء هيئة التدريس.
اللجان الشعبية
كانت اللجان الشعبية هي أحد أشكال المقاومة قبل ثورة يناير حيث تشكلت ” لجنة الدفاع عن أموال المعاشات وحماية الحقوق التأمينية” التي استخدمت الوقفات الاحتجاجية والدفاع القانوني ضد الاستيلاء على أموال المعاشات، ” لجنة الدفاع عن الحق في الصحة” التي خاضت نضالًا كبيرا للدفاع عن الحق في الصحة وأقامت دعوي قضائية ضد تحويل التامين الصحي إلى شركة قابضة.
كما تشكلت اللجنة التنسيقية للدفاع عن الحقوق والحريات النقابية والعمالية والتي ظلت منتظمة في عملها واجتماعتها في الجمعة الثانية من كل شهر بمقر مركز هشام مبارك للقانون، “حركة تضامن” لدعم الاحتجاجات العمالية المتصاعدة في كل ربوع مصر.
كما تشكلت حركة شباب 6 إبريل كحركة مستقلة عن الأحزاب والكتل السياسية واستطاعت جذب المئات ان لم يكن الالاف من الشباب للعمل السياسي ومنهم من شارك في ائتلاف شباب الثورة.
كذلك تشكلت ” اللجنة الشعبية للدفاع عن ارض مطار إمبابة” لمواجهة مخطط تقسيم أرض مطار إمبابة وتهجير كل سكان المنطقة. وكانت اللجان الشعبية شكل للتنظيم لعب دورًا هامًا في التعبئة حول قضايا محددة ولكنها كانت خطوات على الطريق إلى يناير.
التغيرات في سلطة مبارك
كان مشروع التوريث قد تبلور من خلال لجنة سياسات الحزب الوطني وجمعية شباب المستقبل، إضافة إلى تشكيل حكومة رجال الأعمال (حكومة نظيف الأولي) وبدأ الإسراع في عمليات الخصخصة وتعويم الجنيه وتعديل التشريعات الاقتصادية لتهيئة الاقتصاد للتغيرات الكبرى. وكان الخضوع الكامل أمام المخططات الأمريكية والتي تجلت في أنقى اشكالها في مشاركة مصر في حرب الخليج مع استمرار العلاقات مع إسرائيل وبيع الغاز لها. وسيطرة الحزب الوطني على كل مفاصل الدولة مع صعود نجم مليونير الحديد أحمد عز والذي تولي أمانة التنظيم وأشرف علي أسوء انتخابات برلمانية في 2010 حيث تم استبعاد كل القوي السياسية لتهيئة الأجواء لمشروع التوريث.
على صعيد آخر كانت الدولة البوليسية التي يقودها حبيب العادلي تتوحش وشاهدنا العديد من الأحداث الهامة مثل قضية عماد الكبير الي خالد سعيد إلي تفجير كنيسة القديسين ولكن رغم كل ذلك كان هناك هامش ديمقراطي يسمح بالتظاهر والإضراب والاعتصام وبالوقفات الاحتجاجية أمام مجلس الشعب ومجلس الوزراء ودار القضاء العالي ونقابة الصحفيين. إضافة الي استقلال نسبي للقضاء وصدور أحكام هامة في العديد من القضايا الاقتصادية والسياسية.
وكلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية كان يتم تهيئة المسرح للتوريث الذي أجهضته وقضت عليه ثورة 25 يناير.
شبكات التواصل الاجتماعي
لا شك أن شبكات التواصل الاجتماعي قد لعبت دورًا هامًا في التعبئة رغم اختلاف الأهداف بين مجموعاتها المختلفة. ولكنها هي التي قادت لتنظيم الاستقبال الأسطوري للدكتور محمد البرادعي باعتباره “المهدي المنتظر” وخرجت العديد من القوي السياسية لاستقباله بينما هو تسلل ليخرج من الباب الخلفي.
كما لعبت بعض الصفحات دورًا في الحشد والتعبئة منها ” صفحة كلنا خالد سعيد” والتي ضمت 1.9 مليون معجب و443 ألف ناشط، “مباشر 6 إبريل” وضمت 97.4 ألف معجب وصفحة “شباب 6 إبريل” 35.5 ألف معجب، حركة ” شباب من اجل العدالة والحرية (هنغير)” 3.2 ألف معجب. لكن يصعب أن نرجع تفجر الثورة بدعوة مجموعات الفيس بوك فقط مؤكد أنها لعبت دور مهم في الحشد والتعبئة ولكن من الصعب أن نغفل كل التحركات الشعبية والعمالية التي سبقت 25 يناير. إضافة إلى إن نظام مبارك كان قد وصل إلى ذروة الفساد والتبعية والتجهيز النهائي للتوريث الذي أوقفته وقضت عليه ثورة 25 يناير أحد أفضل الثورات في تاريخنا الحديث رغم كل المحطات التي وصلت إليها ولذلك حديث آخر.
كما يصعب ما يفعله البعض واستسهال وصم ثورة يناير بأنها ثورة برتقالية صنعتها المخابرات الأجنبية لقطع الطريق على الثورة الفعلية، وهي وجهة نظر تحتاج لمناقشة اخري. لكن ما قصدت أن أصل إليه من خلال هذا المقال هو أن نتعرف بشكل مكثف على العديد من المحطات التي مررنا بها على الطريق إلى 25 يناير.
أما لماذا تعثرت الثورة ولماذا انتصرت الثورة المضادة وصادرت الشارع والحريات العامة فذلك موضوع مهم جداً ولكنه يحتاج لحوار آخر.
الهبات العفوية تحدث بشكل كبير أحياناً في غياب الأحزاب والسياسيين وقد حدث ذلك في يناير 1977 على أثر قرارات رفع الأسعار ثم في يناير 2011 والتي صعدت الحشد حتى سقطت الشرطة في 28 يناير وبدأ الاعتصام الكبير. وهناك عشرات الدراسات التي كتبت لتقييم هذه التجربة وهي تحتاج للمزيد من الحوار الموضوعي في محاولة للتعرف على أسباب تعثر الثورة المصرية وصعود الثورة المضادة.
إلهامي الميرغني