أهرامات مصر في الشعر العربي.. إعجاب وحيرة وعجز عن الوصول إلى سرها
لا شك أن الآثار المصرية مصدر إعجاب الناس في القديم والحديث، وتعد أهرامات الجيزة واحدة من أبرز هذه الآثار التي تركها المصريون القدماء، فهي إحدى عجائب الدنيا السبع ومعلم سياحي لا مثيل له.
بنى المصريون القدماء أهرامات الجيزة بين 2630 و 1530 قبل الميلاد. وقد استخدمت أيضا كمقابر للملوك والملكات، ويعد هرم خوفو الواقع غرب الجيزة لأكبر بينها.
في هذا التقرير يرصد لكم موقع «درب» أبرز ما قيل عن الأهرام في الشعر العربي، وفقا لما ذكره كتاب «الآثار المصرية في الأدب العربي» للأديب والشاعر أحمد أحمد بدوي.
قال بدوي في كتابه إن القارئ لكتاب «حسن المحاضرة» لمؤلفه جلال الدين السيوطي، المتوفي سنة 911 هجريا، وهو يجمع الآراء التي قيلت قبله يدرك مقدار ما كان من اختلاف في الرأي حول الوقت الذي بنيت فيه، وحول بانيها، والهدف الذي أنشئت من أجله.
وبحسب بدوي، قد بدت هذه الحيرة في الشعر يومئذ، فقال بعضهم:
حسرت عقول ذوي النهى الأهرام.. واستصغرت لعظيمها الأجرام
مُلس موثقة البناء شواهق.. قصُرت لعال دونهن سهام
لم أدر حين كبا التفكر دونها… واستعجمت لعجيبها الأوهام
أقبور أملاك الأعاجم هن، أم.. هذه طلاسم أم أعلام؟
ولعل هذا الشعر من أول ما قيل في الأهرام؛ لأنه يتحدث عن ملاستها، والغالب أن يكون ذلك قبل أن يحاول المأمون فتح باب فيها عند زيارته لمصر. والشعر ينبئ عن حرية للعقول يومئذ في الأهرام، وما وقع في نفس الشاعر لها من الإكبار والإجلال.
والبيت الأخير يدل على بعض ما كان يدور حول الأهرام من آراء.
ووجد الرأي الذي سبق أن عرضنا صداه في الشعر، فقد رُوي أن أحمد بن طولون حفر على أبواب الأهرام
أنا باني الأهرام في مصر كلها.. ومالكها قدما بها والمقدم
تركت بها آثار علمي وحكمني.. على الدهر لا تبلى، ولا تتلئم
وفيها كنوز جمة وعجائب.. وللدهر لين مرة وتهجم
وفيها علومي كلها غير أنني.. أرى قبل هذا أموت فتعلم
ستفتح أقفالي، وتبدو عجائبي.. وفي ليلة في آخر الدهر تنجُم
ثمان وتسع واثنتان وأربع.. وسبعون من بعد المئتين، فتسلمُ
ومن بعد هذا جزء تسعين برهة.. وتُلقى البرابي صخرها، وتهدم
وتدبر فعالي في صخور قطعتها.. ستبقى وأفنى قبلها ثم تُعدم
قيل: فجمع أحمد بن طولون الحكماء وأمرهم بحساب هذه المدة، فلم يقدروا على تحقيق ذلك، فيئس من فتحها.
وإذا صح هذا الخبر، وفق مؤلف كتاب «الآثار المصرية في الأدب العربي» فإن ناظم هذا الشعر أراد أن يضع ألغازا لا يُستطاع حلها؛ ليظهر بمظهر العالم الخبري.
ولا يمكن أن يكون ذلك ترجمة لشعر كتب على شيء في الأهرام؛ لأن الباني لها لا يمكن أن يكون قد أراد فتحها، ولكنه كان يرغب في أن تظل سرا مغلقً ا إلى الأبد.
وإذا كان بعض من رأى الهرمين قال: ليس شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الهرمان؛ فأنا أرحم الدهر منهما. فإن المتنبي قد وقف أمامهما يستعظم أمرهما، ويستعظم بناءهما، ويجعل الشعب الذي أنشأهما، حين يستفهم هذا الاستفهام المنبئ عن الإعجاب إذ يقول:
أين الذي الهرمان من بُنيانه.. من قومُه؟ ما يومُه؟ ما المصرعُ؟
تتخلف الآثار عن سكانها.. حينا، ويدركها الفناء فتتبعُ
ولكنه في البيت الثاني يعلن أن هذه الآثار مهما تخلفت بعد أصحابها سيلحقها الفناء وتتبع من شادوها.
وقد قال المتنبي هذين البيتين بعد أن خرج من مصر في قصيدة يرثي بها أحد رجال مصر. ولم يُشر المتنبي إلى آثار مصر في غير هذين البيتين.
أما عمارة اليمني فيملؤه الجلال عندما يرى الهرمين، فيرى الدهر عاجزا عن أن تمتد إليهما يده، ويراهما مثال الإتقان، ولكنه يعلن عجزه عن الوصول إلى سرهما ويقول:
خليلي هل تحت السماء بنية.. تُماثِل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه، وكل ما.. على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها.. ولم يتنزه في المراد بها فكري
وتعبير الشاعر بخوف الدهر منها يصور مناعتها وقوة صلابتها
أما أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز الأندلسي فيراهما أجمل شيء يمكن أن تراه العين في هذا الوجود إذ يقول:
بعيشك هل أبصرت أحسن منظرًا.. على ما رأت عيناك من هرمى مصر
أنافا بأعنان السماء وأشرفا.. على الجو إشراف السماك أو النَسر
وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا.. كأنهما نهدان قاما على صدر
وقد أخذ صورة النهدين شاعر آخر فجعل الأرض تكشف عنهما عندما أخذت تدعو الله أن يمن على البلاد بالري بعد الظمأ، خوفا على بنيها الساكنين في هذا الجزء، فاستجاب الله دعاءها وأغاثها بالنيل يروي ظمأها، ويشفي غليلها، وذلك إذ يقول:
انظر إلى الهرمين إذ برزا.. للعين في عُلو، وفي صُعُد
وكأنما الأرض العريضة إذ.. ظمئ لفرط الحر والرَمدِ
ومن كل ذلك يتبين أن الشعر في القديم صور حرية الناس إزاء الأهرام، وأعلن إعجابه العميق ببنائها وبُناتها، ومضى يسجل إحساسه نحوها، وإن لم يستطع في أكثر الأحوال أن يرتفع إلى مستوى عال ينبض بالقوة والحياة.
ومما يلحظ أن الذي حظي من الشعر في العصر القديم بأوفى نصيب إنما هما هرما الجيزة الكبريان. أما غيرهما من باقي الأهرام، بما في ذلك هرم الجيزة الأصغر، فلم يحظ بنصيب من التقدير. ويرجع سبب ذلك إلى ما اختص به الهرمان الكبريان من ضخامة وإتقان بناء.
ونالت الآثار المصرية، ومن بينها الأهرام، عناية كثري من الشعراء في العصر الحديث؛ نرى بشائر ذلك فيما قاله السيد علي الدرويش، المتوفى سنة ١٨٥٣ميلاديا، في الهرمني الكبريين:
انظر إلى الهرمين، واعلم أنني.. فيما أراه منهما مبهوت
رسخا على صدر الزمان وقلبه… لم ينهضا حتى الزمان يموت
وهي نظرة تشبه نظرة القدماء في بقاء الهرمين راسخين دائمين، وإن كانت صياغة الشعر «غير قوية ولا رائعة»، بحسب ما يرى بدوي.
وربما كان البارودي أول شاعر في العصر الحديث أطال في الحديث عن الهرمين، ورأى فيه أثرا حصاه أغلى من الدر، وصخره لا يقوم بالتبر. ولنصغ إليه لنتبين ما في شعره من إحساسات شعر بها، وقد أقام بالقرب من الأهرام شهرا يتردد عليها مستغرق الفكر فيها، متأملا ما نُقش فوقها، ناظرا عبث العابثين بما كان فيها، فيقول:
سَل الجيزة الفيحاءَ عنْ هرَمَى مِصرِ.. لَعَلَّكَ تَدْرِي غَيْبَ مَا لَمْ تَكُنْ تَدْرِي
بِنَاءَانِ رَدَّا صَوْلَة الدَّهْرِ عَنْهُمَا.. ومن عجبٍ أن يَغلِبا صولة الدَّهرِ
أَقَامَا عَلَى رَغْمِ الْخُطُوبِ لِيَشْهَدَا.. لبانيهِما بينَ البريَّة بالفَخرِ
فكم أممٍ فى الدَّهرِ بادَت، وأعصرٍ.. خَلت، وهُما أعجوبَة العينِ والفكرِ
تَلوحُ لآثارِ العُقولِ عَليهِما.. أساطيرُ لاتَنفكُّ تتلى إلى الحَشرِ
رُمُوزٌ لَو اسْتَطْلَعْتَ مَكْنُونَ سِرِّهَا… لأبصرتَ مجموعَ الخلائقِ فى سَطرِ
فما من بناءٍ كانَ ، أو هوَ كائنٌ.. يُدَانِيهِمَا عِنْدَ التَأَمُّلِ وَالْخُبْرِ
يُقَصِّرُ حُسْناً عَنْهُمَا «صَرْحُ بَابِلٍ».. وَيَعْتَرِفُ «الإِيوَانُ» بِالْعَجْزِ وَالْبَهْرِ
فلو أنَّ “هاروتَ ” انتحَى مَرصديهِما.. لألقى مَقاليدَ الكَهانة والسِحرِ
كَأَنَّهُمَا ثَدْيَانِ فَاضَا بِدِرَّة.. منَ النيلِ تروى غُلَّة الأرضِ إذ تجرِى
وأول ما يُلحظ في هذا الشعر إذا وزن بمعظمه الشعر الماضي قوة البناء، وشدة الأسر، وإحكام النظم.
أما معانيه فقد رأينا بعضها فيما مضى من الشعر، وبعضها مما انفرد البارودي بالشعور به.