أزمة سد النهضة بين مفترق طرق: ضغوط مصرية سودانية وتعنت إثيوبي.. وطبول الصراع تدق في القرن الإفريقي
أزمة سد النهضة تدخل مرحلة جديدة مع إعلان إثيوبيا نيتها البدء في المرحلة الثانية من ملء خزان السد في يوليو المقبل.. وهو ما تعتبره القاهرة والخرطوم تهديدا لأمنهما المائي
في عام 2001 أعلنت إثيوبيا عن نيتها إنشاء عدد من المشروعات على أنهارها الدولية وذلك في استراتيجية وطنية للمياه كشفت عنها حكومتها حينذاك
الدبلوماسية المائية الإثيوبية نشطت منادية باعتماد اتفاق جديد في قسمة المياه يكون بديلاً للاتفاقيات التاريخية التي تنال فيها مصر والسودان حصصاً رئيسة
كتب – ريهام الحكيم
تصاعدت خلال الآونة الأخيرة حدة الأزمة الدبلوماسية حول ملف سد النهضة في ظل تعنت إثيوبي ورفض مستمر للوساطة الدولية، وما يستتبعه ذلك من تأثير على دولتي المصب مصر والسودان اللذان حذرا مرارًا وتكرارًا مما يمكن أن يفضي إليه المنهج المتشدد الذي تتخذه أديس أبابا.
رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أعلن أمس أن بلاده تعتزم بدء المرحلة الثانية من ملئ بحيرة سد النهضة في يوليو القادم، مضيفًا أن أديس أبابا لا تسعى لإلحاق الضرر بدولتي المصب مصر والسودان.. وهو التصريح الذي جاء بعد يومين من انتقادات وزيرة الخارجية السودانية لما وصفته بالتعنت الإثيوبي أثناء المفاوضات.
فإثيوبيا، التي قال رئيس وزرائها إنها لا تسعى لإلحاق الضرر بدولتي المصب، جددت رفضها للوساطات الدولية، وأعرب نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين عن رفض بلاده القاطع لتدويل هذا الملف العالق منذ سنوات.. مشددًا على أن الإقدام على مثل تلك الخطوة “لن يجبر بلاده” على القبول بأي اتفاق. وذلك في إشارة إلى تحركات مصرية سودانية قبل أيام، لإعادة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.
وترفض إثيوبيا مقترحات تقدمت بها مصر والسودان، بهدف توسيع دائرة الوساطة، واعتماد الوساطة الرباعية التي تضم الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بهدف تسريع الوصول نحو “اتفاق قانوني وملزم قبل عملية الملء الثاني”، وتعلن تمسكها بوساطة الاتحاد الإفريقي.
في أقصى شمال القارة، ترى مصر في مشروع السد تهديدا لوجودها، إذ تعتمد على النيل لتوفير حوالى 97 بالمئة من مياه الري والشرب، وفي المقابل يخشى السودان من تضرر سدوده في حال عمدت إثيوبيا إلى ملء كامل للسد.
وزير الخارجية المصري سامح شكري أعلن خلال لقائه أعضاء لجنة الشؤون الإفريقية في مجلس النواب المصري، الأسبوع الماضي، أن خطوات القاهرة المقبلة مرهونة بمدى الضرر الذي قد يقع على مصر جراء الملء الثاني للسد.. موضحاً “يمكن تصور أن الأمر يسير من دون وقوع ضرر، أما إذا وقع ضرر فهنا تعمل كل أجهزة الدولة لمواجهة هذا الضرر والتصدي له وإزالة أي آثار له”، مؤكدًا أن كل “الإمكانات والقدرات متوفرة لدى الدولة وأجهزتها المختلفة”.
أما السودان فقد دعت إثيوبيا إلى عدم المضي قدمًا في تنفيذ خطة الملء الثانية بشكل أحادي، مشيرًا إلى أن غياب آلية واضحة لتنسيق البيانات، يمكن أن يؤثر في سلامة سد الروصيرص السوداني الواقع على بعد 100 كيلومتر من السد الإثيوبي. كما يمكن أن يتسبب في نقص حاد في مياه الشرب على غرار ما حدث العام الماضي، عندما أقدمت إثيوبيا بشكل مفاجئ على الملء الأول لبحيرة سد النهضة بمقدار 4.9 مليار متر مكعب.
وبدأت إثيوبيا مسيرة مشروع سد النهضة منذ عام 2009، وطبقا لتصريحات القيادات في إثيوبيا فإن غاية المشروع هو توليد الطاقة الكهربائية لتنمية المجتمعات الريفية، حيث تعد إثيوبيا من أكثر الدول التي عكست مآسي القرن الإفريقي في فقره ومجاعاته، ومن ثم فإن أهم الغايات لمشروع سد النهضة وفق الرؤية الإثيوبية المطروحة، تحقيق نهضة اقتصادية لطي حقب الفقر والمجاعات التي عانتها إثيوبيا على مدار العديد من الأعوام، مع توقعات بأن يصبح سد النهضة أكبر سد لإنتاج الطاقة الكهربائية في إفريقيا.
* مبادرة دول حوض النيل 1999
تم الاتفاق والتوقيع على “مبادرة دول حوض النيل” عام 1999 من تسع دول هي، بوروندي والكونغو ومصر وإثيوبيا والسودان وكينيا وراوندا وتنزانيا وأوغندا. وبدأت بعدها مفاوضات مباشرة في عام 2001 بين مصر ودول حوض النيل، قامت فكرة التفاوض بعد أن رفضت بعض دول حوض النيل الأطر القانونية والأتفاقيات التي وقعت سابقاً، وطالبوا بعمل اتفاقيات جديدة ومصر قبلت هذا الطرح بحضور البنك الدولي.
وأثناء جلسات التفاوض، تم الكشف عن ثلاث نقاط اساسية، قسمت الخلاف إلى جبهتين: مصر والسودان كدولتي مصب من ناحية، وباقي دول منابع النيل من ناحية أخرى.
اتضح الخلاف حول ثلاث نقاط رئيسية:
1-الإتفاقيات السابقة مشروعة أم غير مشروعة.
2- فكرة بناء السدود.
3- تقاسم المياه (الحصص المائية لكل دولة).
تمسك كل من مصر والسودان بالحقوق المائية عبر الاتفاقيات التي أبرمتها الحكومة البريطانية “بصفتها الاستعمارية” نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا وتنزانيا وكينيا)، في عام 1929 مع الحكومة المصرية، إلى جانب اتفاقية القاهرة 1959، والتي تتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل ونظمت تلك الاتفاقيات العلاقة المائية بين مصر والسودان، ودول الهضبة الاستوائية وتضمنت الاتفاقية:
1- إقرار دول الحوض بحصص مصر والسودان من مياه النيل، وهي( 55.5 مليار متر مكعب) لمصر، و(18.5 مليار متر مكعب) كحصة للسودان.
2- لدولتي المصب (مصر والسودان) الحق في الاعتراض في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده.
* إعلان الخطوة الإثيوبية في إنشاء سد (الألفية) النهضة
في خضم هذا الخلاف لجأت دول الحوض (دول المنبع) إلى الانفراد بإنشاء ما عرف بمبادرة النيل (اتفاقية إطار العمل التعاوني “عنتيبي” ) التي شهدت اجتماعاتها مدينة عنتيبي في أوغندا، وتم التوقيع عليها من أربع دول من دول المنبع في 14مايو 2010 وهي “إثيوبيا، وأوغندا، ورواندا، وتنزانيا”، ولحقت بها كينيا، ثم بوروندي في فبراير 2011، ليتسنى للاتفاقية أن تكون “إطاراً للشرعية”، بحسب ما نص عليه إطارها القانوني “توقيع ست دول من الدول الأعضاء لحوض النيل”.
تضمنت اتفاقية عنتيبي بنودا تنهي الحصص التاريخية لمصر والسودان وفقا لاتفاقيات عامي 1929 و1959، نصت الاتفاقية على ضمان الاستخدام المنصف والمعقول لموارد المنظومة المائية لنهر النيل.
وبموجب اتفاقية عنتيبي تم إلغاء اتفاقيتى ١٩٢٩ و١٩٥٩، والغاء حق مصر في حصتها التاريخية من مياه النهر ( ٥٥٫٥ مليار مكعب لمصر سنوياً والسودان ١٨٫٥ مليار متر).
لكن مشروع السد الإثيوبي لم يكن وليد تاريخ حديث فبين عامي 1956 – 1964: تم تحديد الموقع النهائي لسد النهضة الإثيوبي الكبير (Grand Ethiopian Renaissance Dam) بواسطة مكتب الولايات المتحدة للاستصلاح States Bureau of Reclamation) ) (إحدى إدارات الخارجية الأمريكية) خلال عمليات مسح للنيل الأزرق أجريت بين عامي 1956 و1964 (من دون الرجوع إلى مصر وفق ما تنص عليه اتفاقية 1929).
ثم عادت إثيوبيا لإحياء الفكرة عام 2009، بمسح موقع السد مرة أخرى وفي أغسطس 2010، تم الانتهاء من عملية المسح للموقع ، وبدء الحديث عن انتهاء الحكومة الإثيوبية من تصميم السد واعتزامها التنفيذ في نوفمبر 2010. وجاء اعلان الحكومة الإثيوبية تدشين مشروع إنشاء سد النهضة، لتوليد الطاقة الكهرومائية في ابريل 2011.
* الخيارات المصرية لحسم الملف
تعد أبرز التأثيرات الاقتصادية على مصر من جراء الملء بدون اتفاق، خسارة جزء كبير من الطاقة المولدة من السد العالي، بالإضافة إلى أن غمر الغابات والأشجار عند ملء بحيرة سد النهضة، سيقلل نسبة الأكسجين المذاب والذى يؤثر على نوعية المياه المنطلقة خلف السد، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على نهر النيل فى السودان وليس فى مصر.
إعادة ملء الخزان بعد انتهاء فترة الجفاف بدون الأخذ في الاعتبار الاحتياجات المائية لدول المصب سيكون تأثيره أشد من حالة الملء الأول، لأنه بعد انتهاء فترة الجفاف يكون محتوى التخزين في بحيرة السد العالي منخفضًا مما يزيد من التأثير السلبي الشديد على مصر.
نقص الطمي الوارد للسودان سيؤثر على خصوبة التربة، وبالتالى سيدفعها لاستخدام المبيدات الزراعية والمخصبات الزراعية ومع عدم وجود نظام صرف متطور جدًا بشكل مباشر سيؤثر على نوعية المياه الواردة لمصر، وهو ما يعنى تدهور فى نوعية المياه المستخدمة سواء فى الزراعة أو الشرب، ما سيؤدى إلى تأثيرات جسيمة على صحة المصريين وما يستتبعه ذلك من آثار اجتماعية واقتصادية جسيمة.
عن السيناريوهات المطروحة أمام كلاً من مصر والسودان ، كتب طارق فهمي الكاتب والباحث في الاندبندنت: “ليس أمام القاهرة خيارات عدة والاتجاه إلى الخطة “باء” هو الأرجح في إطار مواجهة الموقف الإثيوبي، ولكن الإشكالية الكبيرة التي يمكن الرهان عليها هي إمكانية تدخل الولايات المتحدة في الفترة المقبلة، وهو رهان قد يكون وارداً لحسم الأمر والذهاب إلى واشنطن، حيث يعد الخيار النظري المطروح ويحتاج إلى توجه مصر نحو الضغط والتفاوض وفق حسابات معقدة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وفتح سلسلة من الملفات المتعددة بين القاهرة وواشنطن وهو ما قد يؤدي لتدخل أمريكي”.
ويضيف “وفي حال الدخول في هذه المقايضات يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل وستكون لها مسارات عدة في التعامل، إما بتأجيل الملء الثاني، وإما البدء في تبني إجراءات مؤقتة ترضي الجانبين وتؤجل الحسم أو تجزئة الحل النهائي في إطار ما يمكن متابعته ومراقبته في الحل، وفي حال تدخل الجانب الإثيوبي لعرقلة ما سيجري، سيكون لمصر الذهاب إلى الخطة “باء” وحسم الأمر”.
أماني الطويل، رئيسة البرنامج الإفريقي في مركز الأهرام للدراسات، وصفت المناورات الجوية بين مصر والسودان بأنها تأخذ بعين الاعتبار في ما يبدو القدرة على توجيه ضربة عسكرية لسد النهضة، ولكن عامل البعد الجغرافي بين البلدين، الذي يزيد على 2000 كيلومتر هو تحد واضح، حتى على الرغم من قدرة طائرات الرافال التي تملكها مصر للوصول إلى الأجواء الإثيوبية، لذلك فإن أفضل الطرق التي من خلالها تستطيع المقاتلات المصرية أن تتجاوز ذلك التحدي، هو استخدام القواعد الجوية السودانية القريبة من الأجواء الإثيوبية.
وتستكمل “ولكن الاستراتيجية المصرية بشكل عام تسعى لتجنب المواجهة مع إثيوبيا قدر الإمكان، والاستمرار في عمليات الاحتواء السياسي لها، والتأكيد على فرص ذهبية في التعاون التنموي الشامل معها بالتوازي مع استخدام أوراق الردع في تحركاتها الإقليمية مهما ارتفعت تكلفتها”.
تحدث الدكتور أحمد المفتي، ممثل السودان السابق في مفاوضات سد النهضة، في تصريحات صحفية على أن ” مصر والسودان فرطتا في حقوقهما القانونية والمائية والمعلوماتية بشأن سد النهضة الإثيوبي منذ عام 2011، حيث وافقتا على تشييده من دون إبرام أي اتفاق وشروط ملزمة للجانب الإثيوبي، ليكتشف الجانبان بأنهما وقعا في خطأ جسيم بعد 10 سنوات، ويريدان الآن تداركه وهو أمر صعب المنال”.
وأوضح المفتي أن “هناك ثلاثة سيناريوهات تتصل بالسد، إما لجوء مصر والسودان إلى مجلس الأمن، أو المواجهة العسكرية، أو انتظار نتيجة المبادرة الأمريكية”، مشيرًا إلى أن “الخيارين الأول والثاني لهما متطلبات قانونية، فلا يمكن أن تحدث مواجهة من دون إخطار مجلس الأمن أولاً، وبعد فشل مساعيه، وإلا سيكون الأمر خطأ كبيراً وغير قانوني، في حين يتطلب إخطار مجلس الأمن ضرورة سحب دولتي المصب توقيعهما من إعلان المبادئ”.
أما هاني رسلان، رئيس وحدة دراسات السودان ودول حوض النيل في مركز الأهرام للدراسات، تحدث لبي بي سي قائلاً : “إن هناك أضرار جسيمة جدا من خطوة الملئ الثاني وأن الادارة الإثيوبية مصرة على تحويل النهر إلى ملكية إثيوبية، خاصة في ظل نظام دولي منشغل بأزمات أخرى في مناطق أكثر التهاباُ وبعض الدول التي لا تمانع من هيمنة إثيوبيا على مصير النهر. وأعتبر ان الازمة حالياً أصبحت تمر بمفترق طرق أما الاستسلام للنهج الإثيوبي أو الصراع الذي لا يؤمن عواقبه في الشرق الإفريقي”.