أحمد فوزي يكتب في ذكرى الثورة: تروما يناير (1) .. مقدمات الصدمة ونتائجها
أصبحت ثورة يناير حدث يمكن تقيمه موضوعيا، بقدر المساحات الممكنة والسقف المتاح، وقدرات المتورطين فيها، على الحكم عليها وعلى أنفسهم بموضوعية، خاصة أمام أطراف تحاول أن تحملها أزمات لا طاقة لها بها، ولم يبق إلا أن يقولوا أنها من أسباب اندلاع الحرب العالمية الثالثة الدائرة فى ساحة أوكرانيا.
اليوم احاول قراءتها والحكم على ما جرى، وأنا أرى ابنتي – بنت الأربع سنوات وقت مشاركتى فى الثورة -، وهي مراهقة، وأرى ابني – المولود بعد اندلاعها بشهور وقد شارف على المراهقة، كنت قد استقبلت نبأ ميلاده فى تونس، بينما أحاول أن أنقل خبراتي، ومجموعة من الخبراء العرب لصياغة تشريعات منظمة الانتخابات فى مايو 2011، اكتب تلك الجملة ووجهي ترتسم عليه ابتسامة بلهاء (انتخابات)، وحشتنى الانتخابات دي، و لو حتى على طريقة انتخابات 2000 و 2005 بلاش 90 حتى.
أطرح على نفسى عدة اسئلة، هل تجاهلت القوى الديمقراطية، والمعرفة عندي على انها ضد كافة أشكال الاستبداد بطبعاته المختلفة، والتي تسعى لتحديث وعصرنة المجتمع المصري، الغارق فى التخلف والجهل من سبعينيات القرن الماضي، والممنوع على مواطنيها المشاركة في إبداء الرأي والشراكة فى الحكم وإنشاء منظماته المستقلة منذ عام 1954، هل تجاهلت هذه القوى موازين القوى فى المجتمع التى لا تتحمل أصلًا وأنها غير قادرة ببنيته وظروفه على إحداث تغيير جذري، أي تغيير يهد اللعبة وموازينها وبنائها من جديد، هل لم تدرك هذه القوى أن امكانية حدوث إصلاحات تدخل مصر القرن العشرين، الذي انتهى اصلًا بالتفاوض مع قوى شريكة أقوى منها هو غاية الممكن؟ هذه القوى تنوعت بين برجوارية مشوهة النشأة ليس لديها أي رغبة فى لعب دور لقيادة تغيير فى صالحها أصلا لتطوير نفسها وأوضاعها ومجتمعها مثلما فعلت في محاولتها الأولى والأخيرة بعد الحرب العالمية الأولى، والتى انتجت خطوات مهمة لم تكتمل على طريق التطور الثقافي والعلمي، وأنشأت أحزاب ومشروعات ثقافية عديدة.
أما الثانية فهي دولة ما بعد مارس 1954، ووضعية المؤسسات الحاكمة فيها وفي مقدمتها الجيش، حيث تم وضع أسس لحكم الجمهورية، بوجود مؤسسة حاكمة ومسيطرة، تساعدها أجهزة تدور العلاقة بينهم بهندسة محكمة مهمآ وصلت بينهم تاريخيا، درجات الصراع، لكن تبقى الامور بينها محسومة بقواعد محدد، يأتي في هذا الإطار ما ظهر من صراع واضح بعد 2005 حول توريث جمال مبارك، والذي رفضته المؤسسة العسكرية وتم استخدام القوى الديمقراطية في هذا الصراع سواء عن اختيار أو بسذاجة
أما الثالثة فتمثلت في التيار السياسي الرئيسي، الذي مثلته جماعة الإخوان المسلمين وهذا التيار كان له الفضل الأعظم فى تهييف المجال العام منذ نكسة 1967 ، بعد سيطرته على هذا المجال كرد فعل على النكسة ثم بعد ذلك بمعاونة سلطة السادات، ودول اقليمية كبرى، ورغم هذه السيطرة لم يقدم هذا التيار أي جملة مفيدة، فكرة أو مشروع، بل قزم المجتمع وزاد من تجهيله وتسطيحه، وأصبح هم المواطنين.. هل دخول الحمام بالقدم اليمنى أم اليسرى؟ هل عدم الحجاب هو سبب الغلاء، ملابس المرأة، دقن الرجل، وجلبابه، مع إبعاد كوادر ذكية داخل هذا التيار، كان لديها القدرة على التطوير والانفتاح، فيما تم الابقاء على ما رأه المواطنين من إدارة بعد 25 يناير من ضحالة وانعدام رؤية وحس، وفى المقابل نتحدث عن ما نتصوره أقلية والتى يتجاوز عددهم أكثر من 10 ملايين مواطن مسيحي، من كثرة ما عانوا من التمييز، اتخذوا قرارً – برضا الدولة ومباركتها – بالتحول من مواطنين إلى رعايا مسئولة عنهم الكنيسة.
ومع تردي الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية ومع انفتاح مهول من قبل شباب الشرائح العليا والمتوسطة من الطبقة المتوسطة على العالم واستخدام وسائل تواصل ومعرفة مختلفة، وضيقهم بتهميش الحريات، ترافق مع ذلك أزمة اقتصادية شعروا فيها بالتهميش، اندلعت ثورة يناير، والتي يجب ان نعترف جميعا بأن الفقراء لم يشاركوا في اندلاعها، بل أن جزء منهم كان فى صفوف الثورة المضادة، بل وكانوا بين الداعمين للخلاص منها بدعاوى الاستقرار والعجلة والمؤامرة، وهو ليس حكم ادانة لأحد أو ذنب لهم بل واقع لابد من الاعتراف به، كان وراءه الافقار والظلم والتجهيل وسيطرة تيارات رجعية على المجال العام لعقود طويلة وعدم قدرة القوى الديمقراطية عن طرح خطاب لضعف منظماتها وضعف اليسار المصرى بعد تعرضه لضربات امنية موجعة منذ سبعينيات القرن الماضى وعدم تطوير خطابه الذى تأثر بافكار قومية شعبية حتى وصل الحال بفصائل منه لدعم الاخوان ضد سلطة أو العكس، ومع ظهور وسائل احتجاج وحركات احتجاجية نشط فيها شباب يساريين وليبراليين وقوميين وايضا إسلاميين، في النصف الثاني من العشرية الأولى من الألفينات، غلب على تلك الحركات الاحتجاجية التركيز على رفع شعار عدم توريث السلطة لمبارك، أو مواجهة قمع الدولة، وحتى يوم 25 يناير كان الشعار الرئيسى هو اسقاط وزير الداخلية، في ظل مجتمع فيه سيولة اجتماعية غريبة لا تستطيع تحديد أوضاعه الطبقية، حيث تباينت شرائح الطبقة المتوسطة، بين شريحة عليا تقترب من سلوك البرجوازية فى الاستهلاك والملكية، ومهنيون ينتمون لها بينهم تناقض اجتماعى حسب دخولهم وأوضاعهم الاجتماعية، أما الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة وخاصة موظفي الحكومة والقطاع العام فتعرضوا لافقار بشكل ملحوظ، وحرمان من الخدمات الرئيسية السكن والتعليم والصحة، وأدى غياب أي مشروعات سياسية وثقافية، لتجهيل وتسطيح قطاعات واسعة منها، في ظل غياب نقابات تفاوض باسم أصحاب المصالح ولا تحسن شروط المهنة.
أما القوى السياسية الرئيسية اليسارية، الليبرالية، القومية، الاسلامية، فتوزعت بين قيادات غاب عنها أي تفكير لمحاولة تطوير خطابات عفى عليها الزمن، وجيل وسط يعانى من أزمة المجال العام فى ثمنينات القرن، أما الشباب المفجرين لثورة يناير، بما يعني أنهم القوى الاساسية فيها، وليسوا صناعها منفردين، خاصة وأن أهم أسباب فشل مشروع الإصلاح الممكن بعد يناير، من وجهة نظري هو الحديث عن انها ثورة شباب وتقديس تصرفاتهم وقراراتهم، رغم أن هذا الجيل عانى من الوقع الذي نتج في ظله، وجاءت تحركاته انعكاس لذلك فعظم فقط من أدوات الاحتجاج ورأى انها السبيل الوحيد للتغيير، بينما غلب على خطابه تحقير التنظيم وأهميته، واحتقار وكذلك التهوين من الثقافة والمعرفة والتنظير، والافتخار بتجاوز الايدلوچيات وعدم الانتماء لتيارات ثقافية وسياسية، واخيرًا استخدام خطاب غريب يغلب على بعضه الشتيمة والتحقير والتحفيل والتجاوز والتخوين للمخالفين لوجهات نظرهم.
وهكذا استدعى التغيير والانفجار فى لحظة يجب الاعتراف انها كانت غير جاهزة لانتاج تغيير للافضل، وان حالة المجتمع بهذا الشكل مؤهل اكثر لإنتاج تيارات أكثر رجعية وتخلف، و ربما حالة من الفوضى لا يتحملها الجميع، إذا لم تحاول قواه المختلفة السعي لحالة تعايش وانتاج واقع مختلف.
ومثلما جاء الانفجار في هذه الظروف، كان يوم 28 يناير يوما مفصليا، نتائجه لم يتوقعها الجميع وربما لم يكونوا جاهزين لتحملها، لا القوى الديمقراطية ولا الاخوان المسلمين ولا اجهزة الدولة ولا المواطنين، ولا البرجوازية، وخاصة القوى التقليدية المحافظة، لم يتصور الجميع حالة العداء بين كافة الأطراف، وكذلك هشاشة مراكز كافة الاطراف، وصولا لهشاشة المجتمع ككل، وعدم قدرة الجميع على تحمل النتائج وعدم قدرة كافة الاطراف على فهم انه لا يجوز نفي أيا منها، وعدم قدرتهم خلال الفترة من 11 فبراير حتى 30 يونيه أن يتوفقوا، على التعايش والإصلاح، بدءا باستفتاء مارس، مرورًا بمذبحة ماسبيرو، ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، ومعارك الاستفتاء، والانتخابات البرلمانية والرئاسية ونتائجها، والتي استطاع استغلالها وشيطنة الثورة وتحميلها كل الموبقات اقوى الأطراف مع غباء منقطع النظير من جماعة الاخوان المسلمين، وانتهازية وقلة خبرة وعدم تعقل من القوى الديمقراطية التى كان يجب أن تقوم بدور العاقل فى مستشفى المجانين، و لكنها تعاملت على انها متكافئة مع أطراف تمتلك كل شئ بينما هى لا تمتلك إلا العقل فقط، و لكنها لم تستخدمه.
الحلقة الثانية .. في توصيف الوضع الراهن وطرق الخروج