أحمد علام ووسام متَّى.. رفيقان بين موتين (السجن والقبر)
كتب- محمود هاشم:
“الفراق، الغياب، الرحيل، تعددت المسميات والوجع واحد”، كعادته، قرر تغيير عنوانه بلا ضجيج ودون سابق إنذار، ربما غادر وسام متَّى بجسده، لكن الطيبون لا يرحلون.
وداع الصحفي اليساري لم يكن عاديا، حمل في طياته حزنا عميقا في قلوب الأصدقاء والزملاء والمحبين، ما يعزيهم فيه إلا صخبه المعتاد، الذي ربما ما يزال يلازمه في قبره، وبقدر ما كان صادما للجميع، إلا أنه ربما كان أشد وطأة لصديق عمره أحمد علام، الذي مر عليه ما يزيد عن عام حتى الآن بين جدران محبسه، محروما من أبسط معاني حريته، فقط لمجرد كونا صحفيا يمارس مهنته.
ربما كان علام يمنِّي نفسه بنظره وداع أخيرة إلى صديقه الراحل، أو يسترسلان في الحديث عن أحلامهما المشتركة، أو حتى تأخذهما أقدامهما للاستمتاع بوجبة شعبية في أماكن سمرهما المعتادة في وسط القاهرة أو في ضواحي بيروت.
تزامل علام ووسام في عدد من التجارب الصحفية منها “السفير” و”الأخبار” و”بوسطجي”، تسكعا في حواري القاهرة وأزقة بيروت، جمعهما الإخلاص للمهنة والصداقة والأحلام العبثية بعالم يتسع الجميع.
العاشر من فبراير 2020 لم يمر عاديا على علام، فهو المرة الأولى التي يطل فيها على عامه الجديد من شباك الزنزانة، بينما يكمل ربيعه الـ34، بحكم الغياب – القسري – عن احتفال أصدقائه به في مثل هذا اليوم من كل عام، تاركا مقعده فارغا على طاولة الاحتفال، بينما ينتظر أحبابه عودته إلى “لمَّتهم” المعتادة كل لحظة، إلا أن السابع والعشرين من يوليو الحالي ربما يكون أكثر إيلامًا له من الحبس ذاته.
من فرط تعلقه بمصر وتفاصيلها، وتسكعه في دروبها وأزقتها، ربما تعتقد أنه مصري مولود في لبنان، يتجول بكاميرته الشهيرة، وينشر الضحكات هنا وهناك، قبل أن يعود ليبهرك بثقافته الواسعة واطلاعه الشديد على زوايا وأبعاد كل محور للحديث، في السياسة، والثقافة، والتاريخ، وحتى في المطبخ.
في كل مناسبة أتقابل فيها وعلام، إلا وعلى وجه ابتسامة معهودة، وهي يخبرني “فيه صديق لي اسمه وسام متى لازم أعرَّفك عليه”، نودع بعضنا على أمل ترتيب للقاء قريب يجتمع فيه ثلاثتنا، إلا أن رغبتننا تأجلت إلى حين، بعد القبض على علام في الرابع والعشرين من أبريل قبل الماضي، يوما بعد الآخر نعيش على أمل خروجه، لكن الانتظار كان أطول مما ينبغي، لم يخرج علام – المحبوس على ذمة القضية رقم 558 لسنة 2020 حصر أمن دولة عليا – حتى الآن، وفارق وسام متَّى دنيانا، وتبخر أملنا في اللقاء، الذي ربما كان مؤجلا للحياة الأخرى.
“الرفيق وسام” – كما يحلو لأصدقائه مناداته – لم يكن مجرد صحفي مهتم بالشؤون العربية والدولية والحركات الإسلامية، بل كان حجر أساس له بصمته في كل تجربة شارك فيها، يتذكره زملاؤه في “السفير” و”الأخبار” و”سبوتنيك” و”180 بوست”، و”المنصة”، و”رصيف 22″، تتذكره تجاربه الخاصة التي ساهم في خروجها للنور “بوسطجي” و”المسكوبية” و”المراسل”، لا يكترث للمخاطر ولا يمل من التجربة.
يقول عنه الصحفي اللبناني إيلي القصيفي: “وسام الذي كان يعرف إعداد ولائم الأكل وولائم الضحك، كانت مقالته عبارة عن وليمة صحفية: عناصر كالصحون متعددة وكثيفة ومتداخلة لكن بنفس الوقت متمايزة، ما تزا لغوية لكن لا تأخذ مكان الطبق الرئيسي، مقالته لها طعم ونكهة، حتّى عندما يريد أن ينحاز يعرف كيف ينحاز دون أن يطغى على مهنيته”.
أما علام، الذي لا تختفي الابتسامة من على وجهه الهاديء، حتى يكاد أصدقاؤه يظنون أنها مطبوعة عليه، لا ينقطع حديثه في معظم جلساته على المقهى وفي أي تجمع عن ثورة 25 يناير، وضيقه إلى ما وصل إليها حالها وحال أنصارها، تتكشف ميوله اليسارية بالفطرة في سخطه على السياسات الاقتصادية التي يعاني فقراء الوطن من آثارها، ليجد نفسه فجأة ضحية جديدة في قائمة الصحفيين المسجونين، بتهمة جاهزة “دعم جماعات إرهابية”، على الرغم من توجهه الواضح في انتقاد سياسات جماعات الإسلام السياسي.
أسئلة كثيرة دارت في ذهني فور علمي بالرحيل الصادم لوسام متَّى، ماذا أخبرت علام جدران زنزانته وماذا أخفت عنه؟ هل علم بالفاجعة في محبسه؟ إن كان يعلم، فكيف قضى ليلته دون أن يستطيع إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على صديقه؟ وفيم كان يفكر؟ وإن لم يعلم، كيف سأخبره بالفاجعة بعد خروجه؟ استفهامات أحلاها مرَّ وأبسطها شديد التعقيد، عزاؤنا لأنفسنا.