أحمد الخميسي يكتب : محــمــود درويــش..شــاعــر لا يــمــوت
في ٩ اغسطس الجاري حلت ذكرى رحيل محمود درويش الثالثة عشرة. لم يعش الشاعر العظيم طويلا فقد فارقنا بعد عملية قلب مفتوح ولم يتجاوز السابعة والستين. والسنوات التي أخفى الموت فيها شاعرنا كانت سنوات حضوره الأكبر، فقد تأكد خلالها أن درويش كان ومازال أحد أعظم شعراء العربية وأكبرهم أثرا في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد اكتسب درويش مكانته العالية هذه ليس فقط بفضل إنجازاته في تطوير الشعر العربي، بل ولأن تلك الانجازات الفنية ارتبطت بقضية تاريخية ضخمة هي قضية تحرر الشعب الفلسطيني التي أمست عند درويش تعبيرا عن كل شعب محتل، وعن توق الإنسانية أينما كانت للحرية. في مرحلته الشعرية الأولى حين كان درويش داخل فلسطين كتب”سجل أنا عربي”، و”بين ريتا وعيوني بندقية” واتسم شعره بسطوة الخطاب النضالي.
في تلك السنوات وحتى 1970تقريبا عرفته الثقافة العربية شاعرا مقاتلا ملتزما إلي حد ما بالرؤية الماركسية. وانتقل درويش إلي مرحلة ثانية مع خروجه من فلسطين تلمس فيها الحلم القومي العربي حتى عام 1983عندما أجبر الحصار الاسرائيلي وحزب الكتائب الفلسطينيين على مغادرة بيروت. بعدها انتقل درويش إلي البحث عن شعبه داخل عالمه الذاتي، بعد أن كان يبحث عن ذاته داخل شعبه، ولهذا حين كتب في مرحلته ما بعد بيروت:” اخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا” ! كانت قيثارته مازالت صداحة لكن تغلب الحزن عليها وكاد الألم أن يهزم الأمل في أوتارها. شعراء قليلون في تاريخ الثقافة هم من استطاعوا أن يصبحوا رمزا عاما، مثل بابلو نيرودا، ومايكوفسكي، وناظم حكمت، ولوركا، وأيضا محمود درويش. وقد أصبحوا رموزا إنسانية عاما بفضل ارتباطهم بقضايا كبرى، حتى عندما كان اليأس يصيب بعضهم كما حدث مع درويش، فانقضت عليه أقلام تهاجمه لمشاركته في حوار علني مع مثقفي “المابام” الإسرائيلي، وإقامة أمسية شعرية في حيفا بتصريح إسرائيلي وغير ذلك، مما اعتبروه يصب في مصلحة اتفاقية أوسلو.
لكن كل مثقف شريف يستطيع أن يتفهم مشاعر اليأس والاحباط في قضية معقدة مثل قضية فلسطين في مرحلة معقدة انحسرت فيها أصوات الكفاح المسلح وأصوات البنادق وتدهورت أوضاع المنطقة العربية إلي حد الاعتراف بالكيان الصهيوني.
أستطيع أن أتفهم ذلك رغم اعتقادي الراسخ أن فلسطين لا بد أن تعود كاملة لشعبها مهما طال الزمن وأن تحريرها بالمقاومة سيظل الحل الإنساني الوحيد لكل الأطراف. إلا أن قيمة محمود درويش الكبرى ستبقى في شعره المشبع بالدعوة لتحرير الوطن، والانسان. من غير درويش قادر على أن يكتب: “أيها المارون بين الكلمات العابرة، أيها المارون في الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا، وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة، وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا، أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء.. فاخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا ! “.
في قصائد درويش العظيمة تكمن كل رحلته، وكل عشقه لفلسطين وللحرية التي تغنى بها طيلة عمره. ولن يبقى من الشاعر الراحل الكبير موقف سياسي عابر اشترك فيه مع الآلاف لكن سيبقى منه كل ما امتاز به عن الآلاف، أي قصائده التي مجدت الجمال، والحرية، والحب، وكل المعاني النبيلة. لم يكن ما فارقنا مجرد شاعر، بل خريطة وطن ، وخريطة شعر. بعض القصائد تسوقنا للأحلام، وبعضها يردنا إلي الواقع، لكن وفي كل الحالات لا يمكن للشاعر الحقيقي أن يتخلى عما هو جوهري لكل فن ألا وهو النزاهة التي تحكم ما تخطه يداه.
وقد كتب درويش كل قصيدة من قصائدة بنزاهة ضمير وروح لا تبارى، أيا كان مذهب تلك القصيدة فنيا أو سياسيا، وعاش درويش أشبه ما يكون بصاري السفينة الذي يتقدمها وهي تشق العاصفة، وعلى شراعه في الريح منقوش اسم ” فلسطين” بمختلف القصائد، وبمختلف المحبات، وبمختلف الأحزان، ومختلف الأزمنة، ومختلف الدموع، ومختلف الضحكات، لأن” على الأرض ما يستحق الحياة”، وما يستحق الحياة يستحق كل ذلك.
من حق فلسطين أن تفخر بشاعرها، ومن حق العرب أن يفخروا به ومن حق درويش أن يفخر بشعبه الفلسطيني الذي تبزغ في أرضه معجزات البطولة كل يوم، وكل ساعة، الشعب الوحيد في تاريخ العالم الذي امتد كفاحه من القرن العشرين إلي القرن الحادي والعشرين، ليمسي ملحمة نضال لا تتكرر في سجل الانسانية.
*** قاص وكاتب صحفي مصري