آثار الفقر والغلاء على الأسرة والمجتمع: عن البطالة والغلاء والتضخم والمديونية وتعميق اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
بقلم – أ.د./ ثريا عبد الجواد
“لا يستطيع أحد ركوبك إلا إذا كنت منحنيًا” مارتن لوثر كينج
لعل أحد أعمدة العدالة الرئيسية في أي نظام اجتماعي تتمثل في قدرة هذا النظام على تمكين مواطنيه من كسب العيش؛ من خلال إتاحة الفرص في سوق العمل بما يحفظ الكرامة الإنسانية، وبما يرسخ حق المواطنة المتساوية بين الفئات الاجتماعية المختلفة في العيش اللائق، وبما يفي بالإحتياجات الأساسية للبشر وهو ما يدفعهم إلى المساهمة والمشاركة في مسار الحياة الاجتماعية والسياسية من أجل تحقيق التقدم والإرتقاء.
ولقد استقر الفكر الاجتماعي والاقتصادي على أن التوجه الذي تنتهجه الأنظمة السياسية في سياستها يعد الأساس في خلق التمايز الاجتماعي والاقتصادي، حين تكون هذه السياسات مولدة لقوى اجتماعية أكثر ثراء في مقابل تدني المستويات المعيشية للشرائح الأخرى في المجتمع التي ينالها العوز والحاجة وهم الفقراء، وكما أن لتوالد الثروات قوانينًا خاصة في أي بنية اجتماعية، فإن للإفقار وإنتشاره، وإتساع مداه قوانينه الخاصة ايضا، وكلاهما تحدده طبيعة التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للمصالح التي تعبر عنها قوى الثروة والسلطة في المجتمع في إطار الخصوصية التاريخية المحددة.
ومن هنا فإن رصدنا للآثار الاجتماعية للفقر على الأسرة المصرية في هذه الأونة، يتطلب منا بادئ ذي بدء فحص وتحليل طبيعة الفقر السائد، وأسبابه الموضوعية من أجل الوقوف على تداعياته وآثاره ليس فقط على الأسرة، وإنما الآثار التي تصيب البنية الاجتماعية في كليتها إجمالًا بغية تجاوز الرؤى التي تتجه صوب حصر سوء وتدني أحوال الفقراء في كثير من مناحي الحياة كآثار مباشرة يمكن مواجهتها بتطبيق بعض التدابير والإجراءات الحمائية التي يمكن أن تخفف من آثاره، والتي غالبًا ما تتجه نحو الإصلاحات المالية والنقدية، دون المساس بجوهر الفقر ذاته وأسبابه الحقيقية، إضافة الى ذلك فإن هذا التحليل يمكن أن يقدم فهمًا مناقضاً لما يروج له من أسباب للغلاء بوصفها غير ذات علاقة بالسياسات المطبقة والتي أدت الى هذا الغلاء الفاحش بما يقوض مقدرة الفقراء على مواصلة العيش بالمعنى الحقيقي وليس مجازًا.
* الفقر فقران.. فقر البنية وفقر الأسرة
من الملاحظ أن الخطاب العلمي الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي الشائع حول الفقر وأسبابه، وأثاره، وآليات الفقر من جانب كثير من الباحثين، والأكاديمين، يعد خطابًا مضللًا، ولا يتصف بالموضوعية أو الحياد، سواء فيما يتعلق بما يقدمه هؤلاء الباحثين من تفسير، أو تشخيص لأسبابه، أو سواء فيما تقوم به الحكومة من إجراءات كانت الموجه الأساسي في رؤيتها لتجاوز مشكلته، داومت الأنظمة المختلفة على الالتزام بها وكانت الموجهة الأساسي في أنها كل مشكلة الفقر، ونقطة البدء في عدم حيادية هذا الخطاب وتوجهاته هي ارتباطه بالمصالح المباشرة للقوى الحاكمة في الأنظمة السياسية المتوالية، وليس هذا فحسب بل أيضًا ارتباطه بالمصالح الخاصة بالاحتكارات العالمية للرأسمالية كما تبدو هذه التحيزات في المناهج المستخدمة حول قياسة وتحديد انماطة، أو فيما يتعلق بسياسات مواجهته والقضاء على اسبابة، وبدلًا من الكشف عن الأسباب الحقيقية، والقوى المسئولة عن تعميق ظاهرة الفقر، وإزدياده في ظل نظام السوق، وقوانينه، نجدهم يقدمون رؤى تضاعف من أعداد الفقراء، وتفاقم من سوء أوضاعهم.
تبدو هذه الرؤى أكثر وضوحاً في تلك التقارير التي تقدمها المؤسسات الدولية حول الفقر وسبل مواجهته، والتنمية وإمكانية تحقيقها لتجاوز التخلف، وهي التقارير التي تعد الموجه الأول للسياسات الاقتصادية الراهنة.
ويؤكد جلال أمين أن التقدير والاحتفاء بتقارير الأمم المتحدة حول التنمية والفقر في العالم، والتي يتوالى صدورها لمعالجة الفقر، ومن هم الفقراء، يمثل صورة كاشفة لهذا الوهم العلمي، الذي يتسلح به كثير من الباحثين حيث التقدير والاحتفاء بهذه التقارير وهو ما يساهم في ترسيخ بنية معرفية حول الفقر وأثاره تهدف الى التأكيد على أن الفقر هو مسئولية الفقراء ( جلال أمين، فلسفة علم الاقتصاد).
ذلك أن هذه التقارير تحاول تزييف تاريخ النهب المنظم لقدرات شعوب العالم الثالث، وعدم المسئولية التاريخية والأخلاقية للنظام الرأسمالي في افقارها عبر التاريخ، أو ما تتم ممارسته اليوم في ثوب الرأسمالية المعولمه. ومما لا شك فيه أن هذه التبريرات تنزع الفقر من سياقه التاريخي الذي فرض علاقات تبعية من خلال الاحتكارات الرأسمالية والتي تعمقت بأبشع صور الإحتكار والتبعية المطلقة.
إن الرؤى الأساسية لمواجهة الفقر والآثار المترتبة عليه الان، ليست هي التحسن في ميزانية الدولة، أو العجز في ميزان المدفوعات، أو تسارع معدلات النمو، أو العمل على الالتزام بتحقيق مؤشرات التنمية المستدامة وفقًا للإستراتيجية القومية لأهداف التنمية2030، كما يتم الترويج لها وإنما القضية الأساسية هي تجاوز عتبة التخلف الاجتماعي والاقتصادي، والأهم وفي المقدمة التخلف السياسي المتمثل في إحتكار السلطة وغياب الديمقراطية.
وليس فقط تقارير الأمم المتحدة هي ما يؤكد عدم الموضوعية في تناول قضايا الفقر، بل أننا نستطيع أن نؤكد أن جذور عدم الموضوعية كامنة في صلب العلم الإنساني ذاته، ذلك العلم الذي يشكل تراثه النظري والتطبيقي خاصة علم الاقتصاد والاجتماع، المكون الأكبر لمسألة الفقر في المجتمع وعلى وجه الخصوص علم الاقتصاد، تلك المسألة التي هددت أسس النظام الرأسمالي الوليد في بداية القرن التاسع عشر في إطار التحولات التي طرأت على المجتمع الأوروبي، ومثلت قضية سوسيولوجية كبرى ينبغي مواجهتها مواجهة علمية،الا ان ذلك التراث الذي غض الطرف عن الإستغلال قد تمارسه الطبقة الرأسمالية الذي فاقم من توالد، وتنامي ظاهرة الفقر، لقد أصطبغ هذا التراث بتوجه إحادي البعد في فهم أسباب الفقر، ينفي عن الرأسمالية دورها لمحددات موضوعية لانتاجة.
ولقد تدعم هذا التوجه حتى يومنا هذا حيث مازال هذا التراث وما يتضمنه من تحيز واضح يشكل السياسات التي تنتجها المؤسسات النقدية يدعم التبعية الدولية من خلال خبراء هذه المؤسسات الذين يخططون ويقدمون النصائح، للدول النامية لتجاوز مشكلات الفقر، وتحسين أحوال الفقراء، ولعل الرؤية التي يتم تداولها حول سياسات هذه المؤسسات تعبر عنها تلك المقولة التي ترى ” أنهم يكافحون الفقر ويطالبون بالخلاص منه وتحسين أحوال الفقراء من أجل مزيد من الثراء للأغنياء” (جلال أمين، فلسفة علم الاقتصاد ٢٠٠٨) إلا أن المشهد الأكثر فجاجه في هذا التحيز، قد تمثل في فرض ما يسمى بالنموذج الليبرالي للتنمية، الذي تم فرضه زمن العولمة، والذي يتلخص جوهره في التعاظم الخطير لظاهرة تدويل رأس المال الاحتكاري على المستوي الدولي، وإمتداد هذا الاحتكار الى كافة أسواق العالم، قد أدى الى فرض سياسات تنموية على دول العالم الثالث أضرت به، وأضرت على وجه الخصوص فقراءه، الذين طالهم الفقر، خاصة الطبقات الوسطى التي تحولت الى الفقر وأصبح أبناؤها يطلق عليهم الفقراء الجدد.
ويؤكد العيسوي (إبراهيم العيسوي عشر رسائل في الاقتصاد السياسي ٢٠١٤) أن هذا النموذج الليبرالي مصمم لخدمة مصالح وأولويات القوى الاقتصادية الكبرى في الغرب من خلال توسيع الأسواق أمام منتجاتها، واستثماراتها في العالم، وبسط نفوذها السياسي والاقتصادي في هذه الدول.
وحسبنا نشير الى تعريف الفقر كما حدده تقرير التنمية البشرية 1990، الى أن الفقر يعني عدم القدرة على الوصول الى حد أدنى من مستويات المعيشة، أو أنه الحرمان من المتطلبات المادية اللازمة للوفاء بالحد الأدنى المقبول من الاحتياجات الإنسانية بما في ذلك الغذاء والحاجة الى فرص العمل، والخدمات الأساسية، ومازال هذا المفهوم هو المعنى الشائع حول الفقر، ونضيف أيضًا ما يطلق عليه مفهوم الفقر المطلق، والفقر النسبي، أو ما أطلق عليه أخيرًا فقر الرفاهية، وهو ذلك الفقر الذي تتعرض له بعض الشرائح الاجتماعية في الدول المتقدمة، والذي يعني عدم تمتعهم بمستوى الرفاهية بالمنجزات المتطورة والحديثة وهو ماليس لنا قبل به ولا بأوضاعة.
ولا نستطيع أن ننكر أن هذه المفاهيم، تمثل أدوات منهجية عند الدراسة للواقع ولكنها مفاهيم تفتقر الى التحليل الاجتماعي الذي يربط الفقر بسياقه الاجتماعي والتاريخي في البنى الاقتصادية والنفاذ الى تلك العلاقة بين الفقر ومسبباته الموضوعية التي تجعل من الفقر إرثًا، تتوارثه الأجيال في دورات تكاد تكون مترابطة ويكون المخرج ليس زيادة الدخل أو زيادة القدرات وإنما من خلال الإجراءات والسياسات لكسر حلقه توريث الفقر.
هنا تبرز عدم الموضوعية، يكمن الخطأ العلمي في معظم دراسات الفقر المتداولة، في أن أكثرها يدور حول انه فقر الناس وليس فقر البنية، وأنهم المسئولون عن فقرهم، حيث ان فقر الأفراد أو فقر الأسر هو تالي لفقر البناء الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما يدفعنا بالضروره العلمية والمجتمعية، عند تناول اثارة أن نكون علي وعي بمسبباته الموضوعية الكامنة في البنية الإجتماعية.
فالفقر حاله بنائية ملازمة لأسلوب إنتاج معين يتزايد، ويتسع مداه حين تتركز الثروة والسلطة فيه لصالح الفئات الحائزة على كلتيهما.
وتكمن أهمية التحليل البنيوي لمفهوم الفقر، ليس فقط في تحري الموضوعية في النفاذ الى مسبباتة الفقر الكامنة في البناء الاجتماعي، ولكن تكمن أهميته فيما يقدمه من تحديد لدور التحالف الطبقي الذي يقود السياسات التي تؤدي إليه، ولا نستطيع أن ننكر أن حالة دوام التحالف الطبقي الذي يتكون من القوي العسكرية والبيروقراطية المرتبطة بمصالح تلك القوي، وكبار المحتكرين من الرأسماليه ذوي العلاقة بالاحتكارات الدولية منذ1952 حتي اليوم قد عمق من علاقات التبعية، وانتج سياسات تنموية ، أضعفت من الاقتصاد، وأفقدته القدرة على تحقيق الفائض اللازم والدفع نحو تحقيق مستويات تنموية متقدمة وهو ما انتهى الى حدوث خللًا في كل الهياكل الاجتماعية الأخرى.
وأحدث حالة من حالات العجز الاقتصادي والاجتماعي وفي مقدمتها العجز السياسي، أفقر البنية الاجتماعية ونواتها الأولى وهى الأسرة ويثار هنا تساؤل أراه لازمًا في ضوء ما سبق هل إذا ما أردنا أن نتناول تأثير الفقر والغلاء على الأسرة المصرية أن نقتفي أثر دعاة التنمية الذين يطالبوننا في إملاءتهم، وشروطهم المجحفة في المعونات، والقروض حتى نتجاوز عتبة التخلف وتحقيق التنمية، ونقضي على حالة الفقر، ام ان الازمة الراهنة للمجتمع المصري تتطلب افاقا اخري للخروج من هذه الازمه الطاحنة.
* مشاهد من أحوال الفقر في بر مصر
في النموذج التنموي التابع الذي درجت علي تطبيقه الحكومات المتعاقبه في مصر تصبح الاستدانة من خلال القروض، التي تعاظم حجمها، وزاد الطلب عليها يصبح إخضاع الاقتصاد بأكمله الى تأثيرات إنخفاض قيمة العملة الأجنبية وهو ما يؤثر جذريًا على زيادة الفقر، وغلاء الأسعار والدخول في الدائرة الجهنمية للتضخم والغلاء وإرتفاع الأسعار، شبه أحد المحليين الاقتصاديين أوضاع الإستدانه الراهنة بأنها كالمخدر كلما إفترضنا زادت الشهوة الى الإقتراض.
فقد إرتفعت المديونية الخارجية لمصر من 43.2 مليار دولار في نهاية يونيو 2013 الى 48.1 مليار دولار في نهاية 2015، الى 55.7 مليار في نهاية 2016 حتى وصل الى 102.4 مليار دولار في نهاية 2021 وينطبق نفس التصاعد في حالة المديونية الخارجية الى الدين العام المحلي من 527 مليار في نهاية 2013 الى 756 مليار جنيه في نهاية يونيو 2021، وبينما واصلت المديونية في الإرتفاع من 2023 إلي 156مليار دولار مما يعني تضاعفها بشكل فائق الحدود.
ولاشك أن ارتفاع الأسعار يؤثر على مستوى حياة اسر الفقراء التي لا تعود الى أوضاعها الطبيعية، على إفتراض إنخفاض الدولار وهو مالا يحدث مطلقًا وسط الأزمة الطاحنة التي تمسك بتلابيب إقتصاد طفيلي، وغير منتج، فضلًا عن سوء الأوضاع السياسية تلك التي تحول بين الفقراء وبين عموم الناس في الاحتجاجات، أو رفض تلك السياسات.
في عام 2014/ 2015 قدرت نسبة الفقراء في مصر 28% من عدد السكان، ووفقًا لهذه النسبة تم تحديد خط الفقر في حدود خط الفقر القومي 482 جنيهًا في الشهر أي ما يعادل 16 جنيه في اليوم وهو ما يكفي بالكاد وفقًا للتقديرات المنشورة لشراء سبعة سندوتشات فول وطعمية دون أن يتبقى شيء للإنفاق على الملبس والمأكل والمسكن والتعليم والرعاية الصحية والإنتقالات والكهرباء والمياه.
أما خط المدقع الذي يفترض أن يغطي تكلفة الغذاء الضروري للفرد فهو 322 جنيهًا في الشهر أي أقل من الإحتياج في اليوم وهو ما يشتري خمس سندوتشات فول أو طعمية لاتسد رمق الفقير ليوم الواحد.
كما تشير دراسة حديثة بعنوان مكافحة الفقر بين جهود الحكومة والمجتمع المدني أن 2.4 مليون مصري يعيشون بأقل من خمسة جنيهات في اليوم، أما أكثر من نصف مليون أسرة، بينما 33.8 مليون أسرة يعيشون بأقل من 11 جنيه في اليوم 8.5 مليون أسرة و12.9 مليون يعيشون دون خط الفقر الوطني 3.2 مليون أسرة (إلهامي المرغني، الحوارالمتمدن، 2009).
هذا عن أوضاع الفقر لكن ماذا عن الغلاء في تقرير لوحدة العدالة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان كيف يعيش الفقراء في ظل الغلاء (تحرير وائل جمال، مارس 2023.).
توضح الدراسة أن معدل زيادة أسعار المستهلكين (التضخم) في مصر لأعلى مستوياته منذ أكثر من خمس سنوات ليسجل 32.9 لإجمالي الجمهورية وقادت أسعار الطعام والشراب هذا الإرتفاع، إلا أنه إنعكس على كل الخدمات الأساسية بما فيها النقل، والمواصلات والرعاية الصحية، حيث مثل هذا الوضع ضغطًا شديدًا على مستويات معيشة معظم المصريين، بعد أن فقد الجنيه نصف قيمته خلال عام واحد، ويشكل هذا الوضع خطرًا بالذات على الفئات الأفقر التي لا تستطيع توفير احتياجاتها الأساسية.
ونتيجة لإرتفاع معدل التضخم فقد زاد عدد الفقراء عام 2022/ 2023 الى 35.7%.
أيضًا في دراسة حول تأثير الأوضاع الاقتصادية على الفقر (هبه الليثي ندوة حول السياسات البديلة الجامعة الامريكية 2023) خلصت الدراسة الى أن الجانب الأكبر في الزيادة في معدلات الفقر يعود الى التغير النسبي في الأسعار التي تستهلكها الشرائح المتوسطة ذلك أن نصيب الطعام يمثل أعلى نسبة يستهلكها الفقراء، لأنهم يعانون بصورة أكبر بسبب التضخم في أسعار الغذاء. وطبقًا للجريدة الرسمية بلغ معاش الاسرة من برامج تكافل وكرامة 406 جنيهًا شهريًا، وبلغ معاش المطلقة أو الأرملة 437 جنيهًا، نضيف إلى ذلك أن البرامج التي يفترض أنها تقدم الدعم للفقرأ لتجاوز فقرهم تمثل أداه لتكريس حالة الفقر فنجد أن قيمة الدعم الشهري للمستفيدين لا تفي بالمتطلبات الضرورية للاسرة خاصة في اسر الفقراء كبيرة العدد.
أما عن حالة الفقر الريفي فأوضاعه ليست بأفضل حال من عموم المواطنين في الحضر، ومما لاشك فيه أن القطاع الزراعي يعاني من الأساس عجزًا في قدرته على الوفاء باحتياجات المجتمع من الغذاء، الذي يوصف بأنه قطاع الفقراء، إضافة الى التحديات التي فرضتها عملية الإنتاج والإستهلاك، التي تطلبتها التطورات في المجال الزراعي تلك التحديات التي ضربت في مقتل الفئات الهامشية في الريف من مزارعين سواء ملاك، أو حائزين، إلا أن الأكثر تأثيرًا هم فقراء الريف، وهو ما أدى الى ارتفاع نسبة البطالة، وساهم بشكل كبير في دخول شرائح سكانية تحت خط الفقر.
ولاشك أن ذلك قد ارتبط إرتباطًا عضويًا، بما يسمى بالفقر الغذائي، وتركزه في أقاليم جغرافيًا معينة وعلى الأخص الوجه القبلي وهو ما انعكس سلبًا على أنصبة الفقراء اليومية من المكونات الغذائية وتدني إنفاقهم علي الصحة والتعليم لأبنائهم ومواصلة الحياة الذي أدخل فقراء الريف في دائرة مغلقة من الفقر الفادح.
* الفقر وأثاره على الأسرة
يذخر تراث علم الاجتماع حول الفقر، بالعديد من الخصائص حول الفقر، والفقراء، ولعل إشارة ابن خلدون عن اثاره والاحوال التي تصاحبة، تشير الى علامات لا تخطئها الدراسات المعاصرة حول اثرة وتداعيته علي حياة الناس.
فقد كتب يقول”إن الفقر، والعسف مما يقضي على إنبساط النفس، ونشاطها، ويدعو الى الكسل، ويحمل على الكذب، والخبث، والمكر، مما يفسد معاني الإنسانية”
كما أورد قانونه الاجتماعي في أسباب الفقر وهي أسباب كلها ترتبط بطبيعة المجتمعات المولده للفقر ملخصًا ذلك القانون في “إن الظلم مؤذن بخراب العمران”.
وفي تناولنا لأثر الفقر على الاسرة يجب أن يكون التركيز على ما أصاب شرائح جديدة، أو ما نسميهم بالفقراء الجدد الذين ينتمي القطاع الأكبر منهم من الشرائح الدنيا والمتوسطة للطبقة الوسطى إضافة الى الفقراء التقليديين، وهى الشرائح التي تتحول أوضاعهم من الفقر المدقع، الى الفقر الفادح وبغض النظر عن الرؤى المختلفة في تحديد الطبقة الوسطى من الناحية المنهجية فإن المقصود بها هنا مختلف الشرائح الاجتماعية التي تعيش بشكل أساسي على المرتبات المكتسبة في الحكومة، والقطاع العام أو قطاع الأعمال، والخدمات، والمهن الحرة (ذلك أن أهم ما يميز هذه الطبقة هو أن دخل أفرادها الأساسي ناتج عن العمل الذي يتطلب قدرًا من التعليم، والتأهيل المهني (رمزي زكي وداعا للطبقة الوسطي، 1996 ص35) وهي الطبقة التي أحترقت بنار السياسات المطبقة في العشر سنوات الفائتة، والتي مثلت القاعدة الأساسية للفقراء الجدد وقبل ان نستعرض تلك الاثار نود ان نرصد بعض البديهييات حول عموم تلك الاثار، ليس فقط بالنسبة للاسرة وانما على الصعيد الاجتماعي بآسرة:
⦁ أن السياسات الاقتصادية العامة المطبقة أصبح مألها التأثير ليس فقط على الفقراء، وإنما على عموم الناس، وهو ما يفضي الى عملية توالد، وتكاثر، وتضاعف من حجم الاسر الفقيرة، مما يجعل هذه الاسر عاجزه عن الإنفاق على كل مناحي الحياه ويضاعف من شدة الفقر، وقساوة أثاره بين الأجيال المختلفة في الاسرة الواحدة.
⦁ ويزيد الطين إستشراء الفساد الهيكلي في بنية مؤسسات الدولة، والذي ينعكس في أداء هذه المؤسسات وتصبح عاجزة عن تقديم أي عون للفقراء سواء كانت تعليمية أو صحية، أو مؤسسات للدعم والحماية.
⦁ الفقر في هذه الأوضاع يولد مناخًا تتكاثر فيه فطرياً كل الأمراض الاجتماعية، والبيئية خاصة إذا ما التحق بفساد سلطوي، وسلطة مركزية تضعف من أداء أي منظومة تشريعية تعجز عن حماية وضمان حقوق الفقراء واسرهم.
في إطار البديهيات المشار اليها، يمكن تناول أثار الفقر على الأسرة وتوضيحها في النقاط التالية:-
أولًا: سياسات إقتصاد السوق وتأثيرها على البطالة والغلاء، والتضخم، والمديونية، وما يترتب عليها من صعوبة إستحالة الوفاء بالإحتياجات اليومية للأسر.
ثانيًا: تعميق اللامساواة والحرمان من الحقوق الإجتماعية والإقتصادية والسياسية.
* أولًا: سياسات إقتصاد السوق وتأثيرها
⦁ البداية مع البطالة
البطالة في أبسط معانيها هي العجز عن إيجاد فرص للوفاء بضرورات الحياة، ولا تعني البطالة فقط إزدياد عدد المتبطلين وهو مؤشر على العموم يعد كافيًا لسوء أوضاع الفقراء ولكن الأثر الأكبر أنها تنسحب على تدني خصائص البناء الأسري والتي تبقى على المتبطلين في حالة فقر دائم، وهو ما يدفع أبناء هذه الأسر للدخول في عالم الجريمة والتطرف، والدخول الى الفساد، والتهريب، والإتجار في المخدرات، وتعاطيها، بالإضافة الى خلق عوالم من الجريمة بداية من الإتجار المخدرات وإنتهاء بالإتجار في الأعضاء البشرية.
إلا أن التأثير الأكبر على الاسرة من جراء البطالة، يتمثل في عدم الشعور في ما يسمى بالأمان الوظيفي، وهو ما يؤثر على الاستقرار الأسري ويترتب عليها حالات من التفكك والإضطراب لكن أخطر ما يمكن تناوله من آثار للبطالة، هو ما يمكن أن نرصده بشأن تأثيرها على النسيج الاجتماعي للمجتمع، والتي تجعل الهوه واسعة بين الأغنياء وبين الذين يعانون حالة الفقر الناجم عن البطالة، حيث تتسع الهوة على الصعيد الاجتماعي من حيث متطلبات السكن في التجمعات العمرانية لسكن الأثرياء أو ما يعرف بالمدن المسيجة، إضافة إلى أنماط نظم تعليمية باهظة التكاليف، وأنماط استهلاكية فاحشة في الحياة اليومية، وبين هؤلاء الذين يعانون شظف العيش للبقاء على قيد الحياة وعلى صعيد النسق القيمي الفردي تؤدي حالة البطالة إلى فقدان الكرامة الذاتية للفقراء والشعور بالمذلة وتدني قدر النفس لدى الشخص وتصبح حالة الاستجداء ضرورية لمواصلة الحياة اليومية ولعل أبرز المشاهد تلك التي نآلفها في الحياة السياسية هي سحق كرامة المواطن من أجل اجتذاب صوته في الانتخابات ومرة أخرى سحق كرامته بالحرمان من حقوق المواطنة الأمر الذي يؤثر ويهدد قدرة هذه الفئات على تحسين أوضاعها في دائرة مغلقة من الفقر والتهميش دواليك..
⦁ الغلاء والتضخم والمديونية
هذه المصفوفة الرئيسية تمثل عصب التأثير على الأسرة حيث يؤثر الغلاء وإرتفاع الأسعار على مستوى حياة الفقراء، فيفقدون الجانب الأكبر من رواتبهم على الغذاء وإحتياجات المعيشة، الأمر الذي يمثل ضغطًا شديدًا على مستويات معيشة معظم الأسر بجانب، أن هذه الأوضاع تدفع الى الوقوع في دائرة الفقر الذي لا يمكن الفكاك منه نضيف الى ذلك دخول هذه الأسر فيما نطلق عليه الفقر الغذائي، وإنخفاض المستوى الصحي لأبناءها، وعدم حصولهم على الرعاية الصحية المطلوبة.
إلا أن أهم التأثيرات على أسر الفقراء بسبب الغلاء والتضخم، هو ما تعاني منه النساء في أسر الفقراء وقبولها لشروط عمل في أسواق تفتقر الى الحماية، والضمان والأمان الاجتماعي ولاشك أن ظروف العمل بالنسبة لهؤلاء النساء يؤثر بلا شك على الرعاية الأسرية للأطفال، مما يترتب علية تسرب تعليمي لهؤلاء الأطفال بسبب عجز هذه الأسر عن الاستمرار في نفقات التعليم.
كما يمكن أن نضيف من الأثار على النساء في هذه الأسر هو ما تتعرض له النساء الفقيرات للمعاناه فيما يتعلق بالرعاية الصحية، وبتضاعف حجم هذه المعاناة في أسر نساء الريف، اللاتي يعجزن عن تلقي الرعاية الصحية، أو الوقاية من الأمراض ومما يزيد من سوء أوضاع الأسرة في ظل هذه الظروف ارتفاع تكلفة الخدمات الصحية، مما يزيد المشقة عليها، بالإضافة الى غياب الأمان والحماية التشريعية للنساء في الريف التي تحرمهم من الدخول في مظلة التأمين الصحي و الرعاية الاجتماعية.
وكما أن للبشر تراتبهم في سلم الحقوق في مجتمع تسوده اللامساواه، فإن للجغرافيا أيضًا تبايناتها، وفق منطق التمايز الذي يحرم تجمعات بشرية داخل المجتمع من الحياة الأدمية، وهنا تكون المناطق الريفية هي مناطق ذات إحتياجات خاصة بالمعنى المجازي لعموم الفقراء الذين يقعون تحت خط الفقر، وهو ما يمثل الوجه الآخر للفقر في الحضر، حيث تتضاعف حدة تأثيرات الفقر على أسر الريف وتشتد وطأته وتزداد حدته، وفي ظل التخلف الثقافي وإنخفاض المستوى التعليمي تتعرض الأسر في الريف لموجات من الهجرة لأبناءها، إما هجرة غير شرعية يكون نهايتها الموت أو الهجرة لعوالم الجريمة والتطرف الامر الذي يحرم الريف من عناصر الإنتاج التي كان من الممكن ان تمثل إضافة اقتصادية منتجة للاسر في الريف.
ومن ضمن هذه الأثار بسبب التخلف الثقافي هو ما يترتب على سيادة ثقافة خاصة بالإنجاب، تزيد وتفاقم من حجم وزيادة الفقر في هذه الأسر، انجاب الأبناء يزداد وينمو بنمو الفقر وظروفه، وهى معادلة لا تنجو منها الأسر الفقيرة بسبب أوضاعها، وتسري هذه المعادلة كألية مواجهة للبقاء وضمانًا للإستمرار في مواصلة الحياة من خلال عمل الأبناء، وتستحكم الدائرة لتدفع قوانين وراثة الفقر، الى زيادة إنتاج الفقر مرة أخرى وهكذا.
وتصبح عوامل الخطورة لأجيال أبناء الفقراء والتعرض لها في المراحل العمرية المبكرة، بديلًا عن قاعات الدرس، وفي أحسن الأحوال، من عمل يتصف بالقوة، والقهر، ويضعف من فقدان الأمل في المستقبل لهذه المرحلة العمرية، ويتعرضون لمجمل المخاطر، التي تسود في اسواق عمل الفقراء.
وكما يتردد دائمًا أن الفقر في الأسرة هو نقمه على الأطفال وعلى طفولتهم لأن الحرمان يمكن أن يستمر بها مدى الحياة.
* ثانيًا: تعميق اللامساواة الاجتماعية والإقتصادية والسياسية
الأصل في المساواة بين البشر يمثل قيمة إنسانية، لأن المساواة تفرض تمتع البشر بحقوق متساوية، سواء كانت إقتصادية أو إجتماعية، أو سياسية، من أجل الارتقاء والتمكين، والحصول على المكانة، ولما كان الفقر هو الوجه القبيح لغياب العدالة والمساواة، فإن تأثيراته تصبح هي الكاشفه عن عمق اللامساواة ويعد الفقر صورة معبرة عن عملية التوزيع غير المتساوي للثروة في المجتمع وإنعكاس هذا التوزيع على المشاركة الاجتماعية والسياسية.
يمكن رصد بعض مشاهد من اللامساواة التي تمثل أثارًا على أسر الفقراء قولًا واحدًا أن اللامساواة التي تعاني منها أسر الفقراء في الريف والحضر، تمثل إنتقاصًا من الحقوق الأساسية للمواطن والتي تكفلها الدساتير، وهو ما يتعارض مع حقوق الإنسان وهنا يمكن لنا التمييز بين أنواع مختلفة من حالات اللامساواة التي تتعرض لها الأسر.
⦁ تأتي في مقدمة حالات اللامساواة هي اللامساواة السياسية حيث استبعاد أسر الفقراء وأبناءهم من المشاركة السياسية والتأثير في عمليات صنع القرار السياسي.
⦁ اللامساواة الاجتماعية والإقتصادية وتعني الاختلال الحادث في تكافؤ الفرص بين أبناء هذه الأسر في الدخل والعمل والتعليم وفي تملك الأصول والموارد.
⦁ فقدان المكانة الاجتماعية، وفقدان القدرة على التمكين من تنمية رأس المال الاجتماعي من حيث صعوبات التحصيل التعليمي والثقافي والحرمان من الفرص في التطلع الى وضع أفضل.
⦁ فقدان روح الإبداع والإبتكار وعدم الرغبة في المشاركة.
⦁ الفقر يفرض على الإنسان قيودًا في الإدراك، ويفرض عليه بؤسًا وكراهية، وتغييب في وعيه، وعدم قدرته على مواجهة واقعه إلا بمزيد من الأسباب الغيبية التي تعزله عن واقعه.
في دراسة عن تصورات المصريين الشائعة للتفاوت وعدم المساواة بعنوان “الحقائق مقابل التصورات، محاولة لفهم إنعدام المساواة في مصر”، أجراها البنك الدولي قبل ثورة 25 يناير في 2008 أظهرت الدراسة أن المصريين أكثر كراهية للتفاوت، وأشتدت الكراهية في أوساط الفئات الأشد فقراً في المجتمع ومازال الوضع قائم والعرض مستمر وهما عاملان يشيران الى تفاقم الغضب والإستياء إزاء عمليات توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء ومازال الوضع قائم والفقر مستمر ودائم.
خاتمة:
في صدر إهدائه لمؤلفه وداعا للطبقة الوسطى يكتب رمزي زكي هذه العبارة الفاضحه لكل أسباب معاناة الفقراء في ظل العولمة وسياستها.
“ما أبشع عصرنا الراهن حينما يكون الشعار الكاسح فيه هو (كل شيء مطروح في السوق)”.