يحيى حسين عبد الهادي يكتب: دقيقة سكوت لله  

كان من مزايا السجن أنه قَرَّبَ بين كثيرين من المختلفين سياسياً .. دخلوا السجنَ وهم خُصُوم فَوَحَّدَهم الجلاد.. اضُطُّرُتهم الحبسة الطويلة فى الزنازين الضيقة للتحول تدريجياً من خصومٍ إلى جيران .. ثم من جيرانٍ إلى إخوةٍ .. يتعاونون من أجل تحسين ظروف معيشتهم بعد أن صارت الزنزانة هى الحياة .. فيها يتجاورون ويتسامرون ويجتَّرون الذكريات ويتشاكسون ويتصالحون .. واكتشف كلٌ منهم أنَّ الآخَر بَشَرٌ .. له أُسرةٌ وهموم وآمالٌ وآلام مثله تماماً. 

لكن الأمر لم يَخْلُ من استثناءات .. فى جلسةٍ صافيةٍ داخل الزنزانة أو خارجها (فى ساعة الترَّيُض)، يفاجئك أحدهم بلا مقدماتٍ بِسَبِّ جمال عبد الناصر فينبري له مَن يسب حسن البنا (أو العكس) .. أو يصرخ أحدهم ضد من خانوا الثورة فى محمد محمود فيعايره آخرُ بأنه انقلابى .. فينقلب الصفاء إلى معركةٍ، نجهد أنفسنا فى فَضِّها .. والشيطان الذى حبس هؤلاء وأولئك يضحك مِلْءَ شِدقَيْه مُستَلقٍ على قفاه من الابتهاج بغباء ضحاياه. 

مَرَّتْ بخاطري هذه المعارك العبثية وأنا أُتابع بعض الأصوات الناشزة المُفَّرِقَة التى تشغلنا عن العدو الحقيقى بينما الوطن الكبير العزيز الذى يضُّمُنا جميعاً يغوص تحت ثِقَل اليد الباطشة .. ويَئنُّ من غَلَبَةِ الدَيْن (الذى لم يستَدِنْه ولَم يُبَعثِرْه) .. ومِن قهْر الرجال أمام سطوة الغلاء .. وسكاكين الأشقاء تنهال على أسَدِهم الجريح تسلخ قطعةٌ من لحمه كُلَّ يومٍ  بسكينٍ باردٍ (لم تبدأ بالقناة ولن تنتهى بها).  

فرجاءٌ .. رجاءٌ .. رجاء .. إلى كل الإخوة من القوميين والليبراليين وألوان الإسلام السياسي .. ولِىَ فيهم أصدقاء لا أشُكُ فى نقاء قلوبهم وإن كنتُ أصبحتُ أشك فى سلامة وَعىِ بعضهم بفداحة ما نحن مقبلون عليه .. لا تنشغلوا وتشغلونا معكم بمعارككم البينية الصغيرة مِنْ عَيِّنةِ (مَنْ الذى أوصلنا لذلك؟) .. يا سادة لقد وصلنا لذلك بالفعل .. المهم الآن كيف نخرج .. يقول أحمد بهاء الدين: (فى المعارك الصغيرة .. الرابح والخاسر سِيَّان) .. ليس هذا وقت المكايدة والمعايرة وألاعيب الصغار .. حتى اللصوص يؤجلون سرقاتهم فى مثل هذه الأوقات .. أتوسل إليكم .. وأستحلفكم بحق هذا البلد عليكم .. اكبروا واستشعروا المسؤولية وجَمِّدُوا خلافاتكم .. إلى أن تنتهى هذه المحنة .. ثم عودوا إن شئتم إلى ثنائياتكم البغيضة .. فمصر وشعبها أكرمُ عند الله من كل أبقاركم المقدسة .. أَمَّا السادة المنافقون والمشتاقون فيا ليتهم يكُّفُون قليلاً عن الرقص على جثة الوطن إلى أن نعبر المحنة .. وليطمئنوا فسوق النفاق لن يغلق أبوابه فى هذا البلد أبداً وفيه مُتَّسَعٌ للجميع .. أمَّا الآن فقولوا وافعلوا خيراً أو اصمتوا .. دقيقة سكوت لله .. ارحمونا. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *