وائل توفيق يكتب: قانون الإيجارات القديمة.. بين العدالة الاجتماعية وضرورات التحديث التشريعي
عاد الجدل ليحتدم من جديد في الشارع المصري بشأن قانون الإيجارات السكنية القديم، بعد تسريبات حديثة تكشف بعض ملامح مشروع القانون المطروح للنقاش في البرلمان، وفي خضم هذا الجدل، تتقاطع اعتبارات اجتماعية واقتصادية وتاريخية، يراها البعض متضاربة، بينما يراها آخرون مدخلاً لحل تاريخي طال انتظاره. في الحقيقة؛ لا يمر يوم دون أن يتجدد هذا الجدل بين الموقفين: أحدهما يُمثّل الملاك الذين يشكون من حصولهم على مبالغ زهيدة لا تتناسب مع قيمة العقارات الحالية، والآخر يُمثّل المستأجرين، الذين دفعوا خلال عقود طويلة ما يفوق ثمن السكن ذاته، ويخشون الآن التهديد بالإخلاء.
فنحن هنا؛ نستعرض أهم النقاط المتعلقة بهذه القضية، مركّزين على أبعادها القانونية والاجتماعية، ومقدّمين قراءة نقدية لطبيعة العلاقة بين الدولة، والمستأجر، والمالك.
* الخلفية التاريخية لقانون الإيجارات القديمة
ظهر قانون الإيجارات القديمة في مصر مع بدايات القرن العشرين، وتبلور بصورة أوضح في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم تم تعديله وتوسيعه في الستينيات والسبعينيات ضمن سياق اجتماعي اتسم بمحاولات تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل توجهات الدولة الاشتراكية. كان الهدف حينها هو حماية المستأجرين من تغوّل السوق العقاري، وضمان السكن كحق أساسي.
غير أن هذا الإطار التشريعي الذي جاء في لحظة تاريخية معينة، ظل قائماً رغم تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية بشكل جذري، وهو ما أدى إلى نشوء تعقيدات هيكلية في علاقة المالك بالمستأجر، وأثّر في قطاع الإسكان كله.
* مضمون التسريبات الأخيرة لمشروع القانون
تشير التسريبات إلى أن مشروع القانون الجديد يسعى إلى:
تحرير العلاقة الإيجارية تدريجيًا بين المالك والمستأجر.
تحديد مدة انتقالية (تتراوح من 3 إلى 5 سنوات) قبل تطبيق التحرير الكامل.
وضع قيمة إيجارية جديدة بناء على تقدير لجنة مختصة.
فرض غرامات أو شروط لإخلاء العقار في حال الامتناع عن الدفع أو انتهاء المهلة.
هذه البنود تثير جدلاً واسعًا، إذ يراها البعض خطوة نحو العدالة للمالك، بينما يعتبرها آخرون تهديدًا للسكن الآمن للملايين من الأسر المستأجرة.
* أبعاد اجتماعية: من يحمي الفئات الضعيفة؟
من منظور ماركسي، يمكن القول إن الإيجار القديم كان، رغم كل عيوبه، تعبيرًا عن لحظة اعتراف تاريخي بحق الفقراء في السكن. وإذا كان الواقع اليوم قد تغيّر، فإن الحاجة لسياسات إسكانية عادلة لم تنتفِ، بل أصبحت أكثر إلحاحًا في ظل ارتفاع الأسعار وتضخم سوق العقارات.
تساؤل أساسي يجب أن يُطرح: هل يمكن تحرير العلاقة الإيجارية دون توفير بدائل حقيقية للسكن الشعبي؟
العدالة للمالك: استعادة القيمة أم تعويض تاريخي؟
يشكو العديد من الملاك من تدني القيمة الإيجارية للعقارات القديمة، بل إن بعضهم يحصل على جنيهات معدودة شهريًا، رغم امتلاكهم عقارات بملايين الجنيهات. هنا تُطرح قضية “الملكية” كحق مادي يتآكل بمرور الزمن، دون حماية قانونية فعالة.
لكن العدالة للمالك لا تعني، بالضرورة، نزع الأمان من المستأجر، فالحل العادل يتطلب موازنة دقيقة بين الاعتراف بحق الملكية، وبين ضمان الحق في السكن، وهما حقّان يجب ألا يُطرحا في معادلة صفرية.
* أيّ دور يجب أن تلعبه الدولة؟
الحل لا يكمن فقط في تحرير العلاقة التعاقدية، بل في تدخل الدولة لضمان انتقال عادل، مثل:
دعم الإيجار للفئات الفقيرة خلال المرحلة الانتقالية.
توسيع الإسكان الاجتماعي الممول تمويلاً حكوميًا حقيقياً.
تقديم تعويضات أو إعفاءات ضريبية للملاك الذين حُرِموا لسنوات من العائد العادل.
إن دور الدولة هنا لا يجب أن يكون محايدًا، بل منحازًا – كما ينبغي – للعدالة الاجتماعية، لا للسوق وحده.
* نحو إصلاح جذري لا يُقصي أحدًا
إن أزمة الإيجارات القديمة ليست مسألة قانونية فقط، بل هي تجلٍ لأزمة أوسع في النظام الاقتصادي والاجتماعي المصري. والحل لا يمكن أن يكون بترًا فجائيًا لعلاقة تاريخية معقدة، بل يجب أن يأتي عبر إصلاح جذري شامل لسياسات الإسكان، يُعطي الأولوية للحق في السكن، ويضمن للملاك حقوقهم الاقتصادية بشكل تدريجي ومنصف.
قانون الإيجارات القديمة لا ينبغي أن يُناقش من منظور تقني ضيق، بل كجزء من سؤال أكبر عن العدالة في توزيع الموارد، والحق في المدينة، ودور الدولة في حماية مواطنيها، فإذا لم يُقَرّ مشروع القانون بروح التوازن، فإنه قد يخلق أزمة اجتماعية جديدة بدلًا من أن يحل الأزمة القديمة.
* قانون الإيجارات القديمة في مصر: سكن أم صراع طبقي؟
لا يمر يوم دون أن يتجدد الجدل حول قانون الإيجارات السكنية القديمة في مصر، خاصة بعد تسريب بعض بنود مشروع القانون الجديد المقدم للبرلمان. انقسم الرأي العام بحدة بين طرفين: أحدهما يُمثل الملاك الذين يشكون من حصولهم على مبالغ زهيدة لا تتناسب مع قيمة العقارات الحالية، والآخر يُمثّل المستأجرين، الذين قضوا عقودًا طويلة في هذه العقارات، ودفعوا ما يزيد على قيمة السكن نفسه بمرور الوقت، ويخشون الآن أن تُنتزع منهم مساكنهم تحت شعار “تحرير العلاقة الإيجارية”.
من منظورنا؛ لا يمكن فهم هذه الأزمة إلا باعتبارها امتدادًا لصراع طبقي يعكس التحولات في بنية الاقتصاد المصري: إن الحق في السكن ليس امتيازًا، بل ضرورة حياتية وشرط من شروط البقاء، فحين تنحاز الدولة لتحرير السوق العقاري دون حماية الفقراء، تكشف جوهرها الطبقي: إنها أداة في يد من يملكون وسائل الإنتاج (وفي هذه الحالة: الملكية العقارية).
القانون القديم؛ رغم ما يعتريه من قصور، كان محاولة لضبط توازن مختل، وُضعت في وقت كانت فيه الدولة تُمارس دورًا اجتماعيًا أكثر وضوحًا، غير أن الواقع تغير، والدولة تتراجع تدريجيًا عن التزاماتها الاجتماعية تحت وطأة الليبرالية الاقتصادية.
هنا يجب التأكيد على عدد من المبادئ:
أولا: لا يجوز طرد إنسان من مأواه دون توفير بديل كريم، خاصة إن كان غير قادر على تحمل تكاليف السكن الجديد.
ثانياً: القانون الجديد يجب أن يُطبق تدريجيًا وبضمانات قوية تحول دون تشريد الأسر أو استغلالها.
ثالثاُ: لا بد من تدخل الدولة ليس فقط كوسيط تشريعي، بل كمُنظِّم لملف الإسكان الشعبي، عبر التوسع في مشاريع الإسكان الاجتماعي، ووضع سياسات لدعم الإيجار للفئات غير القادرة.
رابعاً: الملكية العقارية ليست مقدسة في ذاتها، بل يجب أن تُخضع دائمًا لمنطق العدالة الاجتماعية، فالحق في السكن يعلو على الحق في الربح.
القضية إذن ليست قانونية فقط، بل سياسية واجتماعية من الطراز الأول. القانون المدني (1996 وما بعده) قد أطلق العلاقة بين المؤجر والمستأجر وفق مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”، لكن السؤال الأهم: من يملك حق التفاوض حين تكون كفة القوى مختلّة؟ وهل تكون حرية التعاقد حقيقية حين يكون أحد الطرفين مهددًا بالتشريد؟في النهاية، إن حلّ أزمة الإيجارات القديمة يتطلب رؤية عادلة لا تقف عند حدود مصالح الملكية، بل تنحاز بوعي إلى حق الإنسان في المأوى، بوصفه أحد أركان الكرامة الإنسانية، وشرطًا لبناء مجتمع أكثر توازنًا وإنصافًا.