وائل توفيق يكتب: الطبقة العاملة المصرية بين أنقاض الرأسمالية وأحلام التحرر
يأتي عيد العمال هذا العام في ظل سياق عالمي وإقليمي شديد القسوة، تتعمّق فيه أزمات النظام الرأسمالي منذ إندلأع أزمته المالية الكبرى عام 2008، والتي فضحت زيف وعود الازدهار النيوليبرالي، وكشفت الأسس المهترئة لهذا النظام المستغل، الذي لا يعرف إلا مراكمة الأرباح على حساب البشر وحتى الحجر.
منذ ذلك الحين، لم تهدأ الهزّات: من انتفاضات “الربيع العربي” التي عبّرت عن شغف شعوب المنطقة للتحرر من الاستغلال والاستبداد، إلى صعود اليمين في الغرب كردّ فعل مضاد، مرورًا بأزمة كورونا التي عمّقت هشاشة وضع الطبقة العاملة عالميًا، وصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية، ثم المجازر الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني في غزة بدعم إمبريالي فج من الولايات المتحدة الأمريكية وتواطؤ حكومات الغرب.
كل هذه الأحداث لم تكن منفصلة، بل هي تعبيرات عن عمق الأزمة البنيوية للرأسمالية المعاصرة، التي لم تعد قادرة على ضمان حتى الفتات الذي كانت ترميه لطبقتها العاملة في المركز الرأسمالي، فتراجعت “الرشاوى الاجتماعية” من تأمين صحي وتعليم مجاني ودعم اجتماعي، والتي كانت في السابق جزءًا من استراتيجية احتواء نضال الطبقة العاملة.
أما عن الطبقة العاملة المصرية، فهي تواجه هجمة شرسة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، تتجلّى في غلاء الأسعار، وتضخم خانق، وغياب رؤية إنتاجية حقيقية، فبدلًا من دعم الصناعة الوطنية والزراعة، انصبّ الاهتمام على مشروعات بنية تحتية ضخمة لم تعُد ليس فقط!على العمال بل على أغلبية الشعب المصري؛ بأي تحسّن في حياتهم، بل ساهمت في مزيد من الإفقار.
فقانون العمل الجديد جاء ليكرّس هشاشة علاقات العمل، ويجهز على المكتسبات التي حققتها الحركة العمالية طوال عقود، وخاصة بعد انتفاضة يناير 2011 التي شهدت ميلاد عشرات النقابات المستقلة، قبل أن يتم قمعها وتجفيف منابعها التنظيمية.
كذلك تُواجَه الإضرابات العمالية اليوم بالقمع بدلًا من الحوار، وشركات كبرى رابحة مملوكة للدولة تُباع لصالح رأس المال الخاص، فيُلقى بعشرات الآلاف من العمال إلى البطالة أو الهشاشة. هكذا، تُسحق الطبقة العاملة بين رحى الأزمة الرأسمالية العالمية من جهة، وأزمة النظام المحلي التابع والبيروقراطي من جهة أخرى.
فمسألة النقابات المستقلة في مصر بعد 2011 تمثل لحظة مفصلية في تاريخ الحركة العمالية المصرية، وتعكس بشكل جليّ العلاقة المتوترة بين الدولة والطبقة العاملة، خاصة في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد.
لقد مثلت ثورة 25 يناير 2011 فرصة تاريخية غير مسبوقة لانبثاق تنظيمات عمالية مستقلة عن الاتحاد العام لنقابات عمال مصر (الاتحاد الحكومي)، ذلك الكيان البيروقراطي الذي كان ذراعًا من أذرع الدولة طوال عقود، يستخدم لقمع العمال لا للدفاع عن مصالحهم. فمع انهيار القبضة الأمنية “مؤقتًا”، ظهرت على الساحة مئات النقابات المستقلة في مختلف القطاعات: من النقل العام والتعليم والصحة، إلى قطاعات البترول والغزل والنسيج، وحتى العاملين بالزراعة.
هذه النقابات عبّرت عن رغبة حقيقية لدى الطبقة العاملة المصرية في التنظيم الذاتي والديمقراطي، وتجاوزت في بعض لحظاتها حتى المطالب الإقتصادية إلى المطالب السياسية، مُطالبةً بالعدالة الاجتماعية، والمحاسبة على الفساد، وإعادة تشغيل المصانع المتوقفة. لكنّ هذه الموجة لم تكن لتُترك دون ردّ من الدولة.
مع انقلاب موازين القوى في أعقاب 2013، بدأت الدولة المصرية حملة ممنهجة لتجريف الحركة النقابية المستقلة. فتم إصدار قانون النقابات العمالية رقم 213 لسنة 2017، والذي قنّن من جديد سيطرة الدولة على العمل النقابي، ووضع شروطًا تعجيزية للاعتراف بالنقابات المستقلة، مما أدى إلى حرمان المئات منها من مؤسساتهم النقابية، وتحويل العديد من قياداتها للمحاكمة أو فصلهم من العمل، هكذا عادت البيروقراطية النقابية الرسمية للواجهة، لكن بثوب أكثر طاعة للنظام، وأقل تمثيلًا للعمال.
والأدهى من ذلك، أن هذه السياسات جاءت متزامنة مع موجات من الخصخصة، وتصفية الشركات المملوكة للدولة، وفقدان عشرات الآلاف من العمال وظائفهم، دون وجود أي حماية نقابية أو اجتماعية حقيقية، وهكذا؛ بدل أن تكون النقابات أداة للدفاع، باتت عائقًا أمام أي فعل جماعي.
لكن التجربة لم تذهب هباءً. فقد خلّفت وعيًا جديدًا بأهمية التنظيم القاعدي والديمقراطي، وستظل هذه الخبرة حاضرة في الذاكرة العمالية، تُلهم النضالات القادمة، لأن ما أُخذ بالقمع لا يُستردّ إلا بالنضال.
ولفهم أوضاع الطبقة العاملة المصرية في وقتنا الحالي؛ لا يمكن فصل ذلك عن طبيعة النظام الاقتصادي القائم، ودوره كوكيل محلي للمنظومة الرأسمالية العالمية، وخضوعه لشروط المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، الذي أصبح شريكًا فعليًا في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ عقود، وخاصة بعد 2016.
لقد دخلت مصر منذ السبعينيات في عملية “الانفتاح الاقتصادي”، التي شكلت نقطة انطلاق لتحولات عميقة في بنية الاقتصاد، من اقتصاد تهيمن عليه الدولة إلى اقتصاد مختلط تغلب عليه سياسات السوق، وصولًا إلى تبنٍّ شبه كامل للنهج النيوليبرالي، ومع تطبيق برامج الخصخصة والتقشف وتحرير الأسعار، تراجعت أدوار الدولة في دعم الإنتاج الصناعي والزراعي، وجرى تحويلها إلى راعٍ لمصالح رأس المال المحلي والأجنبي، عبر تقديم الحوافز والإعفاءات، وتسليع كل شيء من التعليم إلى الصحة إلى السكن.
وفي هذا السياق، أصبحت الدولة في مصر لا تلعب دورًا حياديًا بين الطبقات، بل تحولت إلى أداة مباشرة لحماية مصالح فئات محددة من الرأسماليين المحليين والدوليين. فهي تقمع الحركة العمالية، لا لأنها تهدد “النظام”، بل لأنها تهدد مصالح الرأسمال الذي يشترط استقرارًا سياسيًا ويدًا عاملة رخيصة بلا حقوق.
هذا ما يفسّر تعامل الدولة العنيف مع أي تحرك احتجاجي سلمي، خصوصًا الإضرابات العمالية المطالِبة برفع الأجور أو تحسين ظروف العمل، بدلًا من الاستجابة للمطالب، تلجأ الدولة إلى القمع الأمني، والفصل التعسفي، والتشهير بالقيادات العمالية، ومحاكمتهم بتهم ملفّقة تتعلق بـ”التحريض” أو “الانتماء لكيانات غير مشروعة”. وتُمارس هذه السياسات في ظل تجاهل مقصود؛ لحقيقة أن الأجور لا تواكب معدلات التضخم والانهيار الجنوني لقيمة الجنيه، في وقت تتصاعد فيه أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكل يُفقِر العامل ويجعله عاجزًا عن إعالة أسرته.
أما قانون العمل الجديد، فهو تتويج لهذه السياسات. فبدلًا من أن يُحصّن حقوق العمال في مواجهة هذه الظروف، جاء القانون ليكرّس هشاشة علاقات العمل، ويُسهل فصل العامل، ويقلص من سلطات النقابات، ويعزز من سلطة ربّ العمل دون رقيب. بهذا الشكل، يُعاد تشكيل علاقة العمل في مصر لصالح رأس المال، بينما تتحول الدولة إلى شرطي لحمايته، لا إلى ضامن للعدالة الاجتماعية.
إن هذه المنظومة لا تستهدف فقط إسكات صوت العامل، بل كسر روحه وإخراجه من المعادلة السياسية والاجتماعية تمامًا. لكنها، كما أثبت التاريخ مرارًا، تغفل عن أن القمع قد يؤجل الانفجار، لكنه لا يمنعه. فالجوع والظلم لا يُسكِتانه القهر، بل يولّدان وعيًا قد لا يظهر سريعًا، لكنه حين يتشكل، يكون عميقًا وصلبًا.