وائل توفيق يكتب: الحرب الإسرائيلية الإيرانية.. تصعيد قد يؤدي إلى تراجع الهيمنة الأمريكية

إنّ العدوان الإسرائيلي على إيران، سواء كان محدودًا أو واسعًا، لا يمكن فصله عن السياق التاريخي للصراع في الشرق الأوسط، الذي تحوّل منذ أوائل القرن العشرين من صراع قومي ضد الاستعمار إلى صراع يعكس التناقضات بين الإمبريالية العالمية من جهة، وقوى التحرر الوطني والطبقات الشعبية من جهة أخرى.. فإسرائيل، بوصفها قاعدة متقدمة للمشروع الإمبريالي في المنطقة، تؤدي دورها الوظيفي من خلال استهداف القوى التي تخرج عن السيطرة الأميركية-الغربية، وعلى رأسها إيران.

وبينما لا تزال نيران غزة مشتعلة تحت رماد الركام، وفي وقت لم تلتئم فيه جراح المنطقة بعد عدوان “طوفان الأقصى”، جاء الهجوم الإسرائيلي على إيران ليفتح فصلًا جديدًا من فصول التصعيد الإقليمي، ويطرح تساؤلات عميقة حول موازين القوى في الشرق الأوسط، وأدوار الفاعلين الدوليين، وقدرة ما يُعرف بـ”محور المقاومة” على الصمود، فضلًا عن تداعيات مباشرة وغير مباشرة على مصر والقضية الفلسطينية.

وليس خافيًا على أحد أن ما كان يجري قبل العدوان الإسرائيلي الأخير كان صراعًا عبر وكلاء وضربات محدودة، لكن انتقاله إلى حرب مباشرة قد يغيّر ميزان القوى في المنطقة وربما في العالم.

ما يحدث الآن من عمليات عسكرية صهيونية، سواء بالطائرات أو المسيّرات أو عبر الوسائط الاستخباراتية، لا يمكن اعتباره مجرد رد فعل تقليدي ضمن سياسة الحروب، بل يعكس سعيًا متجدّدًا من حكومة الكيان الصهيوني لفرض معادلة ردع شاملة، ليس تجاه طهران فقط، بل تجاه حلفائها الإقليميين، بدءًا من حزب الله في لبنان، مرورًا باليمن والعراق، ووصولًا إلى الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة.

وتكمن خطورة هذه العمليات في ما تحمله من رسائل؛ إذ تحاول إسرائيل الإيحاء بأنها لا تزال قادرة على فرض هيبتها العسكرية، بعد اهتزاز صورتها منذ 7 أكتوبر 2023، حين نفّذت فصائل المقاومة الفلسطينية هجومًا غير مسبوق على “غلاف غزة”.

أما الرد الإيراني، وإن كان محسوبًا لتجنّب حرب شاملة، فقد أظهر تماسكًا في التنسيق العسكري، غير أن الضغوط تزداد على طهران من عدة جهات:

إقليميًا:  هناك محاولات لعزلها سياسيًا وإعلاميًا، وربط نشاطاتها بـ”الإرهاب” أو “المغامرة غير المحسوبة”.

ميدانيًا:  تتعرض خطوط الإمداد والدعم بين طهران وبيروت وغزة لضربات متكررة.

داخليًا:  تواجه بعض أطراف المحور، الذي يُفترض أن يكون مساندًا، تحديات اقتصادية وشعبية، كما هو الحال في إيران ولبنان وحتى اليمن.

ورغم ذلك، تؤكد المؤشرات الميدانية استمرار قدرة إيران على الرد وتعديل قواعد الاشتباك، ما يعني أن محاولة إضعافها لم تنجح بعد، بل قد تدفعها إلى تعميق تحالفاتها وتعزيز حضورها الشعبي.

منذ 7 أكتوبر، بدا واضحًا أن إسرائيل تسعى لاجتثاث المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة، لكن بعد شهور من القصف والتدمير الممنهج، لم تنجح تل أبيب في تحقيق أهدافها المُعلنة: لا تفكيك للبنية العسكرية، ولا انهيار للحاضنة الشعبية، ولا حتى تهدئة دائمة.

ما أثبتته هذه المعركة هو أن المقاومة ليست مجرد تنظيمات مسلحة، بل تعبير عن رفض شعبي ممتد، يتغذّى على عقود من القمع والاحتلال والحصار. الصلابة التي أظهرتها غزة تعكس نضجًا سياسيًا وتنظيميًا، وتكشف عن فشل استراتيجي في التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني، لا أزمة أمنية.

موقف مصر من التصعيد بين إسرائيل وإيران يعكس موقعًا سياسيًا حساسًا. فهي، من جهة، شريك في معادلة الأمن الإقليمي، وتنسّق مع تل أبيب وواشنطن في ملفات متعددة، أبرزها معبر رفح وغزة.. ومن جهة أخرى، تواجه رأيًا عامًا عربيًا ومصريًا لا يزال يرى في القضية الفلسطينية رمزًا لحق تاريخي.

الضغوط الاقتصادية الهائلة على مصر تحدّ من قدرتها على المناورة السياسية، وتجعل موقفها أقرب إلى “الحياد الفاعل”، دون قدرة على التأثير المباشر أو لعب دور الوسيط الحقيقي. ومع تصاعد الأحداث، قد تجد مصر نفسها مطالبة بإعادة النظر في توازناتها، خاصة في ظل تنامي السخط الشعبي من سياسات الحصار والمواقف الرمادية.

* روسيا والصين

يكشف هذا التصعيد مواقف كل من روسيا والصين، وإن بشكل غير مباشر. فروسيا، المنشغلة في أوكرانيا، تتابع تطورات الشرق الأوسط بحذر، لكنها تحرص على الحفاظ على علاقتها بكل من إيران وإسرائيل. وتبقى أولويتها ضمان نفوذها في المنطقة دون الانزلاق إلى صدام مباشر، وهو ما يتجلى في محاولاتها للتدخل من أجل الوصول إلى اتفاق.

أما الصين، فتواصل خطابها الدبلوماسي التقليدي الداعي إلى التهدئة والحوار، مع حرصها على استمرار علاقاتها الاقتصادية مع الجميع، ضمن استراتيجية طويلة الأمد ترتكز على الاستثمار لا المواجهة. حتى مع ما يُقال عن مساهمتها في إعادة تشغيل بعض المضادات الدفاعية في إيران بعد الضربة الأولى.

ومع ذلك، فإن كلا البلدين يستفيد من تراجع الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط، ويعمل تدريجيًا على ملء الفراغ، كلٌّ بطريقته.

* السيناريوهات المتوقعة

حرب مباشرة متعددة الجبهات تشنّ فيها إسرائيل ضربات موسعة داخل العمق الإيراني (المفاعلات النووية، قواعد الحرس الثوري، منشآت صناعية). تردّ إيران بالصواريخ والطائرات المسيّرة على المدن والمواقع الإسرائيلية، يدخل حزب الله الحرب من الشمال، وربما حماس من الجنوب، ويغلق الحوثيون مضيق باب المندب. يؤدي التصعيد إلى تدخل مباشر من الولايات المتحدة.

نتائج محتملة:

خسائر بشرية واقتصادية جسيمة في إسرائيل، دمار واسع في إيران، احتمال قصف منشآت نفطية خليجية، اشتعال جبهات في العراق واليمن، ارتفاع أسعار النفط، أزمة طاقة عالمية، اضطراب في الأسواق، خاصة في الشرق الأوسط وأوروبا.

سيناريو كارثي ومفتوح على انزلاق إقليمي واسع، تدفع كلفته الطبقات الشعبية لا الحكام، بينما تراقب الرأسمالية العالمية لتستفيد من إعادة الإعمار بعد الدمار.

* ضربات محدودة وردود محسوبة

توجه إسرائيل ضربات دقيقة لمواقع إيرانية في إيران أو عبر حلفائها في اليمن والعراق. تردّ إيران بشكل رمزي أو عبر حزب الله/الحوثيين دون تصعيد شامل. تضغط القوى الدولية لاحتواء الموقف.

نتائج محتملة:

توتر دائم على الجبهات، دون حرب شاملة، خسائر اقتصادية محدودة، ارتفاع مؤقت في أسعار الطاقة، وتعزيز للردع المتبادل دون حسم.

هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا على المدى القصير، حيث تُدار الأزمة كورقة تفاوض وليس كمعركة حسم.

* اغتيالات وعمليات خاصة

تقوم إسرائيل بتنفيذ اغتيالات ضد علماء ومسؤولين عسكريين إيرانيين، بينما تردّ إيران بعمليات مشابهة أو ضربات صاروخية. تُنفذ بعض العمليات عبر فصائل المقاومة.

نتائج محتملة:

توتر أمني شديد داخل إيران، احتمال تصعيد شعبي أو تعبئة قومية، مزيد من تأزيم العلاقات الإقليمية دون حرب شاملة.

حرب خفية بطابع طبقي، تستهدف العقول والكوادر، وتُرهق الشعوب، بينما تُراكم شركات الأمن والتكنولوجيا الأرباح في المراكز الرأسمالية.

* انفجار خاطف يؤدي إلى تسوية جديدة

مواجهة فجائية تتسبب في أيام من الحرب المكثفة، يتدخل المجتمع الدولي لفرض اتفاق، تحصل إيران على ضمانات نووية، وتحصل إسرائيل على دعم أمني وتوسيع للتطبيع.

نتائج محتملة:

تسوية مؤقتة تعيد ترتيب المشهد الإقليمي، تعزز الدور الأميركي كوسيط، وتتحمل بعض الدول (الخليج، مصر، الأردن) فاتورة الاستقرار.

وعلى كلٍ، تشير كافة المعطيات إلى أن المنطقة تدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، عنوانها الأبرز “تصعيد محدود ومتكرر”، مع تنامي أدوار تنظيمات المقاومة الشعبية، وتراجع قدرة الأنظمة الغربية على شراء صمت شعوبها في ظل أزمة رأسمالية متفاقمة.

ومع كل ضربة تُوجّه هنا أو هناك، تزداد وضوحًا حقيقة واحدة: موازين القوى لم تعد محسومة كما كانت. فالمقاومة، رغم الحصار، لا تزال قادرة على المبادرة، وإيران، رغم الضربات، لم تُردع بالكامل بعد.

الضربة الإسرائيلية لإيران ليست سوى فصل في صراع طويل، تتداخل فيه المصالح الدولية مع الإرادات الشعبية. وبينما تزداد كلفة الحرب على الجميع، تبقى فرص السلام الحقيقي مرهونة بتحول جوهري في ميزان القوى، ليس فقط بين الدول، بل بين الأنظمة والشعوب.وفي قلب هذا المشهد، تبقى فلسطين – بكل ما تمثله من مأساة وأمل – مركز الصراع، وعنوانًا دائمًا لإرادة لا تُكسر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *