محمد صابر البطاوي يكتب: لي شقيقة يضمها تراب القدس


في تراب القدس يستريح جسدها المناضل بعد 25 عاما من التنقل كفراشة بين الشوارع والأزقة والأحياء.. يطل وجهها مضيئا بين دخان المعارك وغبار الاشتباكات، يسكت كل شيء منتظرا صوتها عميقا وحروفها عربية رصينة ترسم بها أحوال القدس أو جنين أو أيا ما يكون، تضع المشاهد بوصفها في قلب الحدث.

هي بنت القدس التي تحب أن تراها سعيدة، ترابط في الشيخ جراح وتدعو لغزة وتبيت على سلالم باب العامود.. اختارت الصحافة لكي تكون قريبة من الإنسان، كي تغير العالم، أو على الأقل تكون قادرة على إيصال صوت القدس إلى العالم.. إنها شيرين أبو عاقلة.

شيرين، هي تلك القادرة على خطف الكلمات والحروف والوجدان ما إن ينساب صوتها، تتوجه الأنظار إليها وتتعلق بها منتظرة ما ستقول.. جهدها كبير، وحضورها طاغ، وقدرتها على الوصول إلى الحدث مبهرة، فتاة.. لكنها بمئة رجل، بل بألف..

أبو عاقلة هي شقيقتي، بنت المهنة المرة، والأرض الحرة، تشاركنا حب فلسطين، ونشاطرها حب مصر، إعلامية قريبة من الإنسان، ينتفض من أجل روحها الشعب بفئاته واختلافاته؛ هذه تتذكر كيف كانت شيرين تنبش بيديها في الأنقاض لتنقذ أبنائها، وآخر يروي كيف قضت شيرين وزملائها ليلا في بيته المهدد بالقصف،

شقيقتي التي لم ألتقها يوما إلا من وراء شاشة، ولم أسمع صوتها إلا عبر المايكات.. لم تلدها أمي، لكن دماها إلى دمائنا تحن، لم نتقاسم العيش والملح في جلسة مرة، لكننا تقاسمنا كد المهنة وغصة القلب وألم الروح على الأرض والأهل وقضايانا. ألم أخبركم؛ إنها أختي في كل شيء.

كثيرون لم يعرفوا أخبار القدس إلا من نبراتها، تربوا على عربيتها الرصينة وأوصافها المبهرة.. لم أتصور يوما كيف تقف بكل هذه الثقة وسط جموع جنود الاحتلال والاشتباكات وتتحرك بقوة لتفضح ممارساتهم أمام أعينهم ورغم كل آلتهم الإعلامية العالمية الجبارة. تخرج الحقيقة من فيها فإذا هي تلقف ما يأفكون.

إن الله سبحانه وتعالى جعل الأنبياء إخوة لأقوامهم الذين كذبوهم وحاربوهم، فقال في كتابه المحكم (وإلى عاد أخاهم هودا)، (وإلى ثمود أخاهم صالحا)، (وإلى مدين أخاهم شعيبا).. نحن لسنا أنبياء؛ وشيرين لم تكن يوما ضدنا، طيلة حياتها كانت لنا.. في صفنا، حربا على عدونا، وناصرة لحقنا، كانت بحق أختنا؛ أخت الشعب الفلسطيني، وأخت الشعب العربي. لذلك رثتها منابر غزة والضفة والقدس، حملوا جثمانها الملفوف بعلم فلسطين والموشح بسترة الصحافة، تماما كما عاشت عمرها ربع قرن من الزمن.. رحلت!.

لماذا عندما رحل صوت الحقيقة قالت أقوال الكذب إن شيرين لا عائلة لها، ليس لها إلا شقيق وحيد بعد وفاة أبيها وأمها، لو كانت شيرين حية لقالت لكم إننا كلنا أشقاؤها، نحن الطابور الطويل من المحيط إلى المحيط نتلقى عزاءنا من القريب والبعيد في أختنا شيرين أبو عاقلة، نتلقى العزاء ونعزي أنفسنا في فلسطين ومصر والخليج والمغرب وكل بلاد الدنيا في أختنا، فنحن أشقاؤها وقرابتها وأهلها وتلاميذها وزملاؤها.

ما أضخم عائلتك يا شيرين، نظمتيهم أشقاء أوفياء وأقرباء وزملاء طيلة 25 عاما، ليس من بلد إلا ولك فيها شقيق يا بنت القدس. حق علينا أن نبلل ثرى قبرها بالعرفان والتقدير، أن ننثر أوراق الورد على مكان استشهادها وعلى مسيرتها في سبيل نصرة قضيتها.

يا ثرى القدس الشريف؛ يا أرض الأنبياء الطاهرة؛ ضمي إليك جسد أختنا شيرين في سلام ورفق.. فقد كانت الدنيا بوجودها أجمل، والحقيقة بكلماتها أوضح، كانت لساننا الذي يلقف ما يأفكون، فاضمم إليك يا ثرى القدس أختنا وابنتك برفق؛ فقد كانت تحب دوما أن ترى أهلك سعداء.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *