محمد حليم يكتب: لماذا تريد أمريكا سحق إيران؟
في قلب معركة الانتقال الطويل من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، تقف إيران ليس فقط كدولة متمردة على النظام الدولي، بل كرمز مقلق لنظام عالمي تم تصميمه على قواعد الهيمنة والتبعية للغرب الرأسمالي. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فهم الحرب على إيران، ولا العقوبات الخانقة، ولا الحصار السياسي الممنهج المفروض عليها، من دون العودة إلى بنية الإمبريالية العالمية.
فبعد الحرب العالمية الثانية، وتوحد “الثالوث الاستعماري” المتمثل في أمريكا وأوروبا الغربية واليابان، سعى هذا الثالوث، الذي يمثل المركز الرأسمالي، إلى الحفاظ على علاقات عدم التكافؤ بينه وبين دول الأطراف (المستعمرات القديمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية)، لضمان نهب الموارد وتحقيق الفوائد الاقتصادية منها.
إلا أن وجود الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى عالمية، بجانب حالة الإنهاك والدمار الكبير الذي لحق بأوروبا الغربية واليابان نتيجة الحرب، قد أعاق تنفيذ هذه المهمة.
وشهد العالم بزوغ عدة تجارب استقلالية لدول الجنوب العالمي، عملت على بناء استقلالها الذاتي مستفيدة من هامش الحركة والمناورة الذي أتيح لها نتيجة صراع الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي فيما عُرف بالحرب الباردة.
لكن تلك التجارب تم ضربها الواحدة تلو الأخرى لعوامل خارجية، أبرزها التدخل العسكري المباشر، كما حدث مع التجربة الناصرية التي تم ضربها عسكريًا في عام 1967 بدعم غربي، أو كما حدث مع تجربة سوكارنو في إندونيسيا، التي أُجهضت بانقلاب مدعوم أمريكيًا.
ثم جاء الانهيار الرسمي للاتحاد السوفيتي عام 1991 لتبدأ مرحلة الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة.
في هذا السياق، فإن الحرب على إيران لا تُمثل صراعًا على ملف نووي أو تهديدًا إقليميًا، بل هي هجمة إمبريالية أخرى على دولة من دول الجنوب العالمي، لا يُسمح لها، أياً كانت إمكانياتها أو نظامها السياسي، بأن تراكم تنمية مستقلة خارج شروط المركز الرأسمالي، أو أن تتحدى قواعد التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب. وعليه، استحقت “العقاب”.
هذا المقال لا يسعى إلى تبنّي الرواية الرسمية لطهران، بل إلى تفكيك منطق الهيمنة ذاته، واستعادة البُعد البنيوي في فهم الحروب التي لا تُخاض فقط بالصواريخ، بل تُبنى على أسس اقتصادية وسياسية تُعيد إنتاج علاقات السيطرة بين مراكز الرأسمالية ودول الأطراف.
حين يتحول الطموح إلى تهديد
منذ الثورة الإسلامية عام 1979، شرعت طهران في بناء مشروع مستقل قائم على الاعتماد على الذات، سواء في القطاعات الصناعية أو الدفاعية أو حتى في البنية التحتية الاقتصادية، وتحالفت مع قوى إقليمية ودولية خارج المحور الأمريكي، في محاولة للخروج من الدور الوظيفي الذي يُراد لها كدولة تابعة، منتِجة للنفط الخام، مستهلِكة للسلع الغربية، وخاضعة للمركز الرأسمالي، كما كانت من قبل في عهد الشاه البائد.
هذا الخيار جعل منها تهديدًا مزدوجًا، ليس فقط كدولة “مارقة” وفقًا للتوصيف الأمريكي، بل كنموذج محتمل لدول أخرى قد تسير في طريق فك الارتباط مع الغرب الرأسمالي.
لذا، لم يكن غريبًا أن تواجه إيران حصارًا متواصلًا من العقوبات الاقتصادية والتضييق الدبلوماسي، ومحاولات الانقلاب والاختراق، بل واستهداف بنيتها الإنتاجية والعلمية بشكل ممنهج: من اغتيال العلماء إلى استهداف منشآت الطاقة.
تمامًا كما حذّر سمير أمين: “إن التطور المستقل في الأطراف يُقابَل حتمًا بالقمع من المركز، لأنه يقوّض الهيكل الكوني لتراكم رأس المال”.
المأزق الترامبي والورطة الصهيونية
قد تلاحظ عزيزي القارئ أني حتى الآن لم أتحدث عن “إسرائيل”، رغم كونها الطرف الآخر، بل والباديء بالصراع. وذلك لإيماني أن “إسرائيل” ليست سوى قاعدة عسكرية متقدمة للاستعمار الأمريكي في منطقتنا الشرق أوسطية .
إن الهجوم الإسرائيلي على إيران لم يكن ليتم لولا الحصول على الضوء الأخضر من أمريكا، وبعد أن وفّرت الأخيرة الدعم العسكري والمالي والتقني لتنفيذه، وهو ما ستكشفه الأيام لاحقًا.
نعود إلى أمريكا، التي تعاني من انخفاض معدلات أرباحها، وتباطؤ تراكم رأس المال فيها، يأتي ترامب كتعبير عن هذه الأزمة، ولكن ليس هذا موضوعنا. ما أريد التأكيد عليه هنا هو أن الولايات المتحدة، حتى داخل نظام “الإمبريالية الجماعية”، لم تعد تمتلك أفضلية اقتصادية حاسمة، ولا حتى سياسية أو ثقافية، لذا، فإنها تلجأ إلى عَسْكرة الصراع، بالإضافة إلى خرقها لمبادئ الليبرالية واقتصاد السوق الحر التي طالما نادت بها؛ فلجأت إلى فرض التعريفات الجمركية والسياسات الحمائية، لأنها لم تعد قادرة على منافسة الخارج، سواء تمثل هذا الخارج في الصين، عدوها الأكبر، أو حتى في حلفائها مثل أوروبا وكندا.
كل ذلك يكشف عن ضعف كفاءة النظام الإنتاجي والاقتصادي في قلب المركز الرأسمالي (أمريكا)، التي باتت تعتمد على ترحيل عجزها التجاري وعبء دينها الخارجي الثقيل إلى بقية دول العالم، بفضل ربط النظام النقدي العالمي بالدولار الأمريكي، بالإضافة إلى نهب وتهريب رؤوس الأموال من دول الجنوب، سواء عبر الحكومات العسكرية الفاسدة أو من دول النفط الريعية، على غرار رحلة ترامب الأخيرة إلى منطقتنا، والتي جمع فيها أكثر من خمسة تريليونات دولار.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن أمريكا لا تُمثّل “دولة قومية” بقدر ما تُعبّر عن “اتحاد مصالح” للشركات متعددة الجنسيات، وتدافع عنها عسكريًا، وتقبض “إتاوة” عن تلك المهمة، ثم تُلقي بالفتات لشركائها في أوروبا واليابان.
وهكذا تلعب “إسرائيل” نفس الدور إقليميًا، حيث تُلقي الفتات من ثمار “التطبيع والبلطجة” لشركائها في منطقتنا العربية.
أخيرًا، هدف مشروع التحكم العسكري الأمريكي بالعالم هو التعويض عن خلل اقتصادها، هذا المشروع يهدد شعوب العالم الثالث كافة، فقرار واشنطن الاستراتيجي بالاستفادة من تفوقها العسكري الساحق، والذي يقضي بخوض حروب استباقية بقرار فردي، إنما يهدف إلى خنق أي أمل في وصول أمة كبيرة (كالصين والهند) أو تحالف إقليمي في دول الجنوب (كالبريكس) إلى وضع “الشريك الفاعل” في تشكيل النظام العالمي، حتى لو كان هذا البديل رأسماليًا.
تناقضات المعسكر الغربي
اختيار الولايات المتحدة عَسْكرة العولمة يتصادم مع مصالح أوروبا واليابان، ببساطة لأن أمريكا تريد لهاتين الكتلتين أن تبقيا في موقع التابع، ولهذا تسعى إلى السيطرة عسكريًا على موارد الكوكب، خاصة الطاقة، دون الاكتراث بمصالح حلفائها.
وقد تجلّى ذلك في الأزمة الأوكرانية، حيث انسحبت أمريكا عمليًا من ساحة الصراع، تاركة أوكرانيا وحلفاءها الأوروبيين في مواجهة مباشرة مع نيران موسكو وضرباتها الاقتصادية.
ولهذا تكتسب المعركة الإيرانية بعدًا هامًا في تغذية هذا التناقض، فصمودها كنموذج مقاومة للهيمنة الأمريكية سيُشجّع أوروبا على التمرد على التبعية، أما هزيمة إيران فستجعل هذا التناقض ثانويًا داخل معسكر الإمبريالية.
وهنا أشير إلى أني أعني الشعوب الأوروبية وتياراتها التقدمية حين أتحدث عن إمكانية التمرد، ولا أعني بأي شكل من الأشكال قطاعات رأس المال المسيطرة على مقاليد الحكم والسياسة، والتي تقبل عن طيب خاطر بدور التابع حفاظًا على مصالحها.
في النهاية، أختم مقالي بالتأكيد على ثلاث نقاط:
1. لا يمكن لأي تقدم اجتماعي أو ديمقراطي بدول المنطقة أن يستمر إلا بهزيمة المشروع الأمريكي عالميًا، وهزيمة المشروع الصهيوني إقليميًا، والتجربة الإيرانية تاريخيا تشهد على ذلك، فانقلاب المخابرات الامريكية على تجربة مصدق الديموقراطية والاستقلالية لم تنمحي بعد من مخيلة قادة الثورة الاسلامية الذين لجؤوا للعنف الثوري وتحصين الثورة كي لا يلقوا نفس المصير. والآن تتعدى الحرب على إيران كونها مجرد صراع جيوسياسي، بل هي محاولة لإعادتها إلى دورها التابع داخل المنظومة الرأسمالية. وفي رفضها لهذا الدور، تُجسّد إيران، رغم كل تناقضاتها الداخلية، واختلافنا مع توجهات نظامها داخليا، موقعًا يزعج الإمبريالية لأنه يُعيد طرح سؤال البديل التاريخي.
2. لا بد من بناء جبهة متماسكة لدول الجنوب، تبدأ بالتضامن الدولي بين شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولتنجح هذه الجبهة، يجب أن تُبنى على مشاركة الشعوب، أي أن تقوم على الديمقراطية الشعبية، بحيث تُمكّن الطبقات الشعبية من امتلاك القرار السياسي والاقتصادي. فالتجربة التاريخية تؤكد أن البُنى الاستبدادية سترتدّ حتمًا إلى التحالف مع طبقة الكومبرادور دعمًا للتبعية لأمريكا.
3. الحرب على إيران هي حرب غربية بالأساس، تقوم بها إسرائيل نيابة عن الغرب. وهذا ما لخصه المستشار الألماني حين قال إن “إسرائيل تقوم بمهمة قذرة نيابة عنّا”. وعليه، ستسعى أمريكا وأدواتها في الغرب إلى عدم السماح لإيران بالانتصار، لأن هذه حربها الأساسية على المستوى العالمي، وهذا ما أكدته الضربة الأمريكية الغادرة للمفاعلات النووية الإيرانية، بعدما عجز الكيان الصهيوني عن القيام بها. ضربةٌ تكشف أن المعركة مع إيران ليست سوى فصلٍ من حربٍ أمريكية كبرى، هدفها إخضاع العالم بالقوة العسكرية، وتكريس الهيمنة الكاملة.
ورغم أن السياق قد يسمح بتسوية ما، فإن حدوثها يظل مرهونًا بصمود إيران، عسكريًا ومجتمعيًا، وبحجم الخسائر التي ستتكبدها أمريكا وحليفتها إسرائيل، وبمدى الدعم الصيني والروسي لطهران، باعتبار بكين وموسكو رأس الحربة في محور مقاومة السيطرة الأمريكية.وحينذاك، سيكون ذلك نصرًا استثنائيًا، لا يقل رمزية عن انتصار مصر في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، لا سيما بعد أن قصفت إيران قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر. ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، تجرؤ دولة على ضرب قاعدة أمريكية خارجية بصواريخ من صناعتها المحلية.
لقد مزّقت إيران بذلك القيد المفروض على الشعوب، وكسرت حاجز الخوف من إمبراطورية الفوضى الأمريكية، وغيرت وجه المنطقة، بل ووجه العالم بأسره.لهذا، لا نبالغ إذا قلنا: أنه حتى لو انتهت هذه الجولة، فإن الحرب على إيران ستبقى مشتعلة، إلى أن يُنتزع منها طموحها في الاستقلال، أو تُهزَم الإمبريالية الأمريكية، الهزيمة الحقيقية، في قلب هذه المنطقة المنكوبة.