كارم يحيى يكتب : ألا تدخل “راشيل” الجنة.. أم يدخلها “السادات” ومشايخنا وأمثالهم وحدهم؟

هل تتذكرون الفيلم المصري العربي “فاطمة وماريكا وراشيل”؟

لو تتذكرون يقدم الفيلم، بطولة الفنان الراحل “محمد فوزي” المبدع موسيقى وغناء و تمثيلا وكمنتج للفن، صورة نمطية ( ستريو تايب) (*) لليهود ترتبط بالبخل والجشع للمال والاستغلال. وهذا من خلال تعامل ” راشيل” ووالدها ووالدتها مع البطل الشاب الثري “الفلاتي” الذي يطارد الجميلات من الديانات السماوية الثلاث بإدعاء الحب، وهو جاهز دوما بمجموعة كاملة من خاتم الخطوبة بالحروف الأبجدية كاملة. ويمكن ملاحظة أن هذا الفيلم من انتاج السينما المصرية صيف 1949، أي بعد نحو عام واحد من حرب اغتصاب فلسطين ( النكبة).


لكني أود أن أحدثكم اليوم عن “راشيل” أخرى. وقد حلت ذكرى رحيلها 16 مارس 2003، وقريبا جدا من مصر. على بعد خطوات ” فركة كعب”. وتماما في “رفح” فلسطين، توأم “رفح” المصرية وشقيقتها وجارتها كتفا بكتف، وارتجاجا بفعل قنبلة وصاروخ جيش الاحتلال الإسرائيلي بارتجاج ، ودما بدم.


“راشيل” الواقع المعيش ـ وليست “الستريو تايب” في الأفلام ـ أمريكية من مدينة صغيرة تدعى ” أولمبيا” بولاية واشنطن. وإذا بحثت عن “راشيل” هذه باسمها كاملا ” راشيل آلان كوري” ابنة الأب “كريج” والأم “سيندي” بالعربية والإنجليزية منسوبا إلى حدث وفاتها برفح قطاع غزة في مثل هذا اليوم لن تصل إلى أي شئ يكشف عن ديانتها : هل هي يهودية كما يوحي اسمها أم مسيحية من البروتستانت كما تحيل اسماء الوالد والوالدة والعائلة؟ .. أم إنها بلا ديانة ؟.


وربما أنصف كل من كتب ونشر عنها على شبكة “الإنترنت “، فلم يترك وعلى مايبدو ولو أثرا واحدا على معتقدها الديني. لكن ما نعلمه وتحتفظ به الأرشيفات الإلكترونية يقينا يفيد بأن الفتاة التي غادرت الدنيا، وهي لم تطفئ بعد شمعة حياتها وشبابها وربيعها الرابع والعشرين، هي أمريكية بيضاء شقراء زرقاء العيون.

وهكذا على شاكلة ” الاجئين والنازحين الناجين المميزين ” ممن يشكو بعضنا مع غزو ” بوتين ” لأوكرانيا من تفضيلهم وإكرامهم وإنقاذهم عن “مشاريع لاجئين” عرب ومسلمين وأفارقة.

وسواء أكانت هذه الشكوى بريئة أو لوجه الله، أو لتبرير الغزو والعدوان والحرب والخراب ودكتاتورية “القيصر الروسي” شبيه الطغاة المستبدين عندنا.


ولقد ولدت هذه الفتاة “راشيل” في 10 أبريل 1979، أي بعد أيام معدودة من توقيع حاكم مصري عربي مستبد اسمه “السادات” معاهدة صلح مع الإر هابي الصهـ يوني السفاح رئيس وزراء إسرائيل “مناحم بيجين”. و” الإر هابي السفاح ” هذه ليست تجنيا أو افتراء وسبابا لا سمح الله. فأرشيفات الصحافة البريطانية تحمل ماهو أسوأ من أوصاف ووقائع موثقة عندما زار لندن عام 1972 مع استدعاء ماضيه الدموي، وتزعمه لمنظمة أو عصابة ” الإرجون” في فلسطين قبل 1948 وخلال حربها ومجازرها.
“راشيل” تنحدر من أسرة وصفتها والدتها قائلة: ” نحن أمريكيون عاديون، ليبراليون سياسيا، وحافظون اقتصاديا ، ومن الطبقة الوسطى”، و هكذا دون أن تتطرق مطلقا لمسألة الديانة أو الإيمان. والمدهش أن ” راشيل” هذه تركت مدينتها الوادعة ” أولمبيا” وأسرتها الهانئة وجامعتها “كلية ولاية إيفرجرين” لتأتي على بعد آلاف الأميال عن اختيار وتصميم وتطوعا كي تتحدى “بلدوزر” للجيش الإسرائيلي. و في محاولة منها وبجسدها ليس إلا لمنع هدم وإزالة بيوت فلسطينين معظمهم من المسلمين في مخيم للاجئين برفح، فيقتلها البلدوزر ويحطم عظامها بعدما تعمد المرور فوقها مرتين.


فعلا مدهش لأن “محمد أنور السادات”، الحاكم المصري العربي الذي على مقربة جدا من “رفح” فلسطين والشهير بأوصاف “الرئيس المؤمن” والمجاهر والمفاخر بكونه “مسلما” والحريص على التقاط وترويج الصور عند الصلاة ومناسك الحج والعمرة، ترك غزة وقطاعها وأهلها خلفة عندما وقع معاهدة الصلح.

وهذا مع إنه يعلم ورجاله علم اليقين أن الجيش الذي ينتسب إليه ـ وأصبح رئيسا ويناديه بـ “جيشي”ـ عنده مسئولية أخلاقية وتاريخية عن احتلال إسرائيل لقطاع غزة يونيو 1967 وتعميق مأساة اللاجئين الفلسطييين.


في ذكرى “راشيل” نستدعي كونها كانت “ناشطة ” في حركة ” أولمبيون من أجل السلام والتضامن”. وهكذا نسبة إلي مدينتها الصغيرة ” أولمبيا”. ولقد تعمد الكاتب وضع ناشطة بين قوسين. وهذا لما نال الكلمة وغيرها من أذى وإهانات من أعداء انتفاضات وثورات الشعوب العربية المسماة بـ ” الربيع العربي”.


وأيضا نستدعي أن الفتاة سعت قبل أن تقابل مصيرها في رفح لتوأمتها مع مدينتها الأمريكية كما نظمت برنامج مراسلة بين أطفال المدينتين . وكل هذا وغيره يعد من هوامش حريات ونعمات المجتمع المدني في ” الغرب”، والذي يصمم مسلمون وعرب عنصريون أيضا ( كما كتبت ونشرت في مقال سابق بتاريخ 7 مارس 2022) على تناول أهله وناسه بالكامل و بالتعميم غير العلمي وغير الواقعي، مع وصمه ( المقصود الغرب طبعا) بالعنصرية و الاستعمار. بل وأحيانا بـ” الكفر” و ” الإلحاد ” و” العلمانية”، وحتى بـ ” النجاسة”، وغيرها مما لايسر عدو أو حبيب.


في تغطية لصحيفة محلية تدعى “بوست جازيت” في موطن “راشيل” وبتاريخ 4 فبراير 2006 يصرح الأب “كريج” لمحررها قائلا:” هناك الكثير من الناس الذين يفعلون ما قامت به ابنتي في فلسطين وأماكن أخرى العالم” . ويقول أيضا هذا الرجل الذي يتذكر ويلات ووخز الضمائر في الولايات المتحدة مع حرب فيتنام :” نحن أصلا من الناس الذين إن وجدوا طفلا أمام حافلة مهددا بالدهس لاندفعنا لانقاذه”.

ويضيف متأثرا :” فعلا افتقد ابنتي لكنني افتخر بها أنا وأمها”.
وتنقل هذه الصحيفة المحلية الأمريكية ـ والتي لانتخيل مثيلا لها أو السماح بصدور ما يشبهها في معظم بلاد العرب والمسلمين ـ مما جاء في آخر رسالة من “راشيل” لأبويها. كتبت :” حقيقي افتقدكم .. تأتيني هذه الأيام كوابيس سيئة تلاحقني في النوم .. دبابات وبلدوزرات تتحرك خارج بيت أنا وأنتم بداخله .. أنا فعلا أشعر بالرعب من أجل الناس هنا في رفح”.


أما الأرشيفات الإلكترونية لصحيفة ” الجاريان” البريطانية الشهيرة فتحتفظ وبتاريخ 1 مارس 2008 وتحت عنوان ” كانت فتاة من مدينة أمريكية صغيرة وعندها أحلام” بمعلومة مفادها أن “راشيل” جاءت رفح ضمن مجموعة من ثمانية شابات وشبان من خارج فلسطين. وهذا من أجل أن يقدموا أنفسهم بعد أشهر من اندلاع الانتفاضة الثانية كـ “دروع بشرية” محاولين ايقاف هدم الاحتلال الإسرائيلي بيوتا في مخيم رفح للاجئين.

وتشير ” الجارديان ” إلى سردية الاحتلال تبريرا لقتله المتعمد “راشيل”. وهي عبارات أصبح من المألوف سماعها في قصور الحكم وشركات “البزنيس” ووسائل إعلام عملاقة ممولة بسخاء في غير عاصمة عربية.


والسردية المبررة للقتل والاضطهاد والاحتلال تتلخص كما نقلتها الصحيفة البريطاينة في هذه العبارات :” هدم المنازل والبيوت ضرورة لأن مسلحين فلسطييين يستخدمون الأبنية للاختباء عندما يطلقون النار على جنودنا ودورياتنا التي تجوب المنطقة، أو للتغطية على مداخل أنفاق تهريب بين غزة ومصر “.
متأخرا ..ومتأخرا جدا و في 28 أغسطس 2012 ينشر الموقع الإلكتروني لصحيفة ” ها آرتس” الإسرائيلية بالإنجليزية خبرا صغيرا يمكن العثور عليه بصعوبة أو بمحض الصدفة. و ترجمة هذا الخبر نصا كما يلي :” رفضت اليوم الثلاثاء محكمة الناحية بحيفا الاتهامات بأن إسرائيل مخطئة في مقتل الناشطة راشيل كوري التي حطمها بلدوزر ( لم تقل الصحيفة تبعيته لمن ؟) خلال مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في غزة عام 2003″. وهنا تماما انتهى الخبر.


لكن ” الجارديان” في النص ذاته السابق الإشارة إليه هنا توثق لتفاصيل تنكرت لها ” ها آرتس”. تلك الأخيرة التي نسبت هكذا خبر شديد الإيجاز إلى برقية من وكالة ” رويترز” البريطانية، مع وضع اسم محررة غير مشهورة بين طاقم صحفييها إلى جانب اسم الوكالة الدولية. ولقد جاء في “الجارديان” أن محكمة الناحية بحيفا قالت على لسان رئيسها القاضي ( عديد جريشون) عند رفض دعوى أسرة “راشيل كوري” أمامها : “كان حادثا مؤسفا .. جيش دولة إسرائيل غير مسئول عن أي إهمال.. هي ( راشيل ) نفسها من وضعت نفسها وبوعي منها في خطر “.


لكن الصحيفة البريطانية في تقريرها نفسه لم تصمت . فقد استعرضت أقوال شهود الواقعة وفي المكان والزمان، و التي تؤكد أن جندي الإحتلال سائق البلدوزر تعمد قتلها وسحق عظامها ومرتين . وبالطبع فإن ” الجارديان” لا تسلم في صحافتنا وإعلامنا “الهمام” من السب والشتم والاستهزاء والاتهام في مهنيتها وتحيزاتها وتمويلها ” المشبوه” عندما تجرؤ وتنشر عن حقوق المواطنين المسلمين والعرب وآدميتهم المهدرة على أيدي ” السلاطين وأمراء المسلمين الجدد”. وعلى أي حال، هكذا هو مآل “الجارديان” وما يشبهها في الغرب، الذي يكرهه عندنا مواطنون عاديون ومثقفون عنصريون مسلمون وعرب بالمطلق وبالجملة.


بالطبع هناك غرب الإمبريالية والاستعمار والعنصرية والحروب والغزو والعدوان والتوحش والتعصب والاستغلال والقائمة تطول ومعها التاريخ غير المنكور .

لكن يقينا ثمة غرب آخر نخطئ ونصاب بعدوى العنصرية وكل ما سبق من رذائل إذا تجاهلناه وأنكرناه. غرب يؤكد إنسانيته عند الأم “سيندي” أو ” مسز كوري” عندما تقول عن ابنتها “راشيل” بمنتهى التواضع والبساطة :” كانت بنتى تقضي الليل يقظة أمام حيطان البيوت لتنقذ الفلسطينيين من الجرافات الإسرائيلية .. أنا الآن اتفهمها ومافعلت. ولقد قضت ثلاث ساعات متواصلة تحاول بجسدها ليس إلا حماية بيت واحد”.


رحم الله الشهيدة “راشيل” واسكنها فسيح جناته.
أم أن الرحمة والجنة والشهادة لا تجوز إلا لمسلمين وعرب. وكذا لحكامهم وأثريائهم ممن قتلوا وعذبوا واعتقلوا ونهبوا وسرقوا وأهدروا مقدرات الأوطان وحقوق مواطنيها، مع كثير من الموبقات الباقيات الأخر كالكذب والتضليل والتجهيل باسم الدين والوطنية.


.. وهل الرحمة والجنة تحتاج ” باسبور” مثبت فيه الديانة والقومية ، وربما العائلة والقبيلة؟ .
القاهرة في الأربعاء 16 مارس 2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *