فضاء الحيز المكاني ودلالاته في “عالقون في مشفى حكومي” لمحمد حليم”
دراسة نقدية بقلم: حنان ماهر
المكان كشاهدٍ على الوجع الإنساني
“كل قصة جيدة تعبر في وحدتها عن وحدة فلسفتها للعالم”، كما يذكر د. الطاهر أحمد مكي في كتابه “القصة القصيرة: دراسة ومختارات”. هذه المقولة تنطبق تمامًا على المجموعة القصصية “عالقون في مشفى حكومي” للكاتب محمد عبد الحليم (الصادرة عن دار ميتابوك)، حيث يتحول المكان من مجرد خلفية سردية إلى شخصية فاعلة تحمل رؤية نقدية للمجتمع.
العنوان: بوابة الدلالات
يُشكِّل العنوان عتبة نصية ثرية:
“عالقون” : كلمة تحمل دلالة الالتصاق القسري، كالعلق الذي يتشبث بالجسد. وهي إشارة إلى شخصيات عالقة بين الحياة والموت، أو بين الأمل واليأس.
“مشفى حكومي”: ليس مجرد مكان للعلاج، بل فضاء للصراع الطبقي، حيث الإهمال وغياب الإنسانية. العنوان ببساطته يحمل إدانةً صامتة لنظام صحيٍّ يكرس معاناة المهمشين.
الغلاف: لوحة بصرية معبِّرة
تصوير ممر مستشفى متسخ بدرجات من الأزرق والأخضر (ألوان الزي الطبي) يعكس تناقضًا مريرًا:
نظافة مهنية مُفترضة × واقع مُلوَّث بالقمامة والخرق.
بلون أبيض في وسط الغلاف (كقلب المجموعة) يرمز للأمل الهش وسط البيئة القاسية
وضع اسم الكاتب في الأسفل يُذكِّر بوضعية “الضحايا” الذين يروي قصصهم.
المستشفى: مسرح للمأساة
يُجسِّد الكاتب المستشفى الحكومي كـ:
مكان مغلق سلبي: غرف العناية المركزة، عنابر المرضى، مساكن الإيواء… كلها فضاءات تُنتج مشاعر الخوف والعجز. كفضاء للصراعات:
صراع طبقي: بين أطباء المستشفيات الخاصة وحكومية، أو بين المرضى الأغنياء والفقراء.
صراع داخلي: كما في حالة الطبيب الشاب الذي يُضطر إلى قتل تعاطفه مع المرضى.
رمز للفشل الاجتماعي: فالمكان المُفترض أن يكون للشفاء يتحول إلى مقبرة للإنسانية، كما في وصف غرفة العناية: “مكان للموت وليس للشفاء”.
الشخصيات: وجوه للمهمشين
محسن (جيفارا): مريض الفشل الكلوي الذي يحمل تاريخًا من المعاناة منذ الطفولة.
أزهار” من عاملة نظافة إلى “فتاة ليل” إلى مريضة تحتاج العناية المركزة.
الطبيب الشاب: ضحية نظام طبي يستنزف إنسانيته.
هذه الشخصيات تُكشف من خلال تفاعلها مع المكان، فالمستشفى مرآة تعكس هوياتهم المكسورة.
اللغة: بين الطبي والشعري
لغة طبية جافة: تُستخدم لوصف الأجهزة والإجراءات، تعكس تبضُّع المشاعر.
لغة شعرية حادة: كما في الاستعانة بشعر أمل دنقل (الذي مات في مستشفى حكومي)، أو في الصراخ الوجودي: “ككابوس لن ينتهي بصيحة، بل سيبدأ بصيحة هستيرية.
لهجات عامية: ككلمة “معلش” التي تُقال للغلابة، مؤكدةً التمييز الطبقي.
الوظيفة الاجتماعية للأدب
الكاتب لا يروي قصصًا فردية، بل يكتب سيرة جماعية للمهمشين:
توثيق الواقع: كشف تناقضات المستشفيات الحكومية والظلم الطبقي.
دعوة للتفكير: كما في قصة “نهى” المتسولة، حيث يُلام الحشد الذي تخاذل عن مساعدتها.
إدانة الصمت: “إذا لا تملكون، لا تتكلمون”. جملة تلخص منطق القمع.
الخاتمة: السرد كمقاومة
الكاتب نجح في تحويل المستشفى إلى “رمز سردي” يختزل أزمات المجتمع. النهاية المفتوحة للمجموعة كما في قصة “الأوفر شوز” تُذكِّر بأن المأساة مستمرة، لكن السرد نفسه يصبح فعل مقاومة:
“في هذا المكانِ يُولد الموتُ كلَّ يوم… وحدَه الحكي من يرفضُ أن يموت!”
بهذا، يصير الأدب عند عبد الحليم وسيلةً لإعادة الاعتبار إلى من سلبهم المكانُ والمجتمعُ إنسانيتهم.