عمال مصر تحت رحمة شركات الكويز.. عمالة رخيصة بلا حماية وأرباح طائلة بلا قيود
حسن البربري
فتح إضراب عمال شركة “تي آند سي” للملابس، احتجاجًا على تدني أجورهم والمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، الباب على مصراعيه أمام تردي أوضاع العمالة المصرية في الشركات المنضمة إلى اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (Qualified Industrial Zones – QIZ)، والمعروفة باسم الكويز. فلم يكن إضراب عمال “تي آند سي” سوى حلقة من سلسلة الاحتجاجات العمالية في تلك الشركات منذ بدء دخولها حيز التنفيذ في ديسمبر 2005.
وفي المقابل، استطاعت تلك الشركات، التي تتمتع بمزايا تفضيلية وضريبية، تحقيق أرباح بملايين الدولارات دون أي اكتراث بحقوق العمالة المصرية، أو بحروب الإبادة التي تشنها الدولة الصهيونية على الشعب الفلسطيني.
نبذة عن الكويز
بعد أن فشلت مصر في أواخر التسعينيات في إبرام اتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة لأسباب سياسية، ونتيجة لقرب انتهاء مدة العمل باتفاقية الألياف المتعددة التي كانت تحكم تجارة الأنسجة العالمية، بات من المتوقع فرض رسوم جمركية على الصادرات المصرية، مما كان سيضع الصناعة المصرية أمام تحديات كبيرة لصعوبة تنافسها مع صادرات النسيج القادمة من بعض الدول الآسيوية مثل الصين والهند وباكستان وبنغلاديش في السوق الأمريكية.
إلا أن الولايات المتحدة قدمت اتفاقية الكويز كخطوة تمهيدية لاتفاقية التجارة الحرة مع القاهرة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. وفي ديسمبر عام 2004، وقعت كل من مصر والولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة، التي تهدف إلى إنشاء مناطق صناعية مؤهلة لتصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة، حيث تتمتع منتجات هذه المناطق بميزة الدخول إلى السوق الأمريكية معفاة من الجمارك، بشرط مساهمة كل طرف بمكونات محلية تقدر بـ11.7% على الأقل. وتمثل هذه النسبة ثلث النسبة المقررة (35%) التي حددتها اتفاقية التجارة بين أمريكا وإسرائيل، والتي أتاحت للمكون الإسرائيلي دخول السوق الأمريكية بإعفاء كامل.
وتتضمن الاتفاقية ذاتها السماح لإسرائيل باقتسام هذه النسبة سواء مع مصر أو الأردن. وتم الاتفاق على إنشاء عدد من المناطق الصناعية المؤهلة في مصر على عدة مراحل، حيث تقرر إقامة ثلاث مناطق في القاهرة الكبرى، ومنطقة في برج العرب والعامرية بالإسكندرية، والمدينة الصناعية ببورسعيد.
وهذه المناطق عبارة عن مساحات من الأرض مخصصة للإنتاج الذي يتم تصديره إلى الأسواق الأمريكية بدون رسوم أو جمارك، وبدون حد أقصى للكميات المصدرة، مع زيادة عدد تلك المناطق تدريجيًا. وشمل الاتفاق كافة المنتجات التي يتم إنتاجها في تلك المناطق، سواء كانت أغذية أو منسوجات أو صناعات معدنية، مع ترك الحرية للمصانع للانضمام إلى هذه الاتفاقية.
وعلى الرغم من تعدد مجالات الإنتاج، إلا أن صناعة الغزل والنسيج استحوذت على النصيب الأكبر من المنتجات التي دخلت الاتفاقية.
أرباح طائلة بلا قيود… من المستفيد؟
بفضل المعاملة التفضيلية التي منحتها الولايات المتحدة لمصر في إطار هذه الاتفاقية، والتي تتيح حرية وصول كافة المنتجات المصنعة بالمناطق الصناعية المؤهلة إلى السوق الأمريكية دون تعريفة جمركية أو حصص كمية أو أي قيود أخرى، مع إعفاء ضريبي يتراوح بين 5% و40%، تسارعت الشركات في تلك المناطق للانضمام إلى الاتفاقية.
وكانت هذه المنتجات تعتمد على النسب المتفق عليها من المدخلات القادمة من الشركات الإسرائيلية، والتي كانت منصوصًا عليها بنسبة 11.7%، ثم خُفضت لاحقًا إلى 10.5% عام 2007. وبعد عامين فقط من دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، بلغ عدد الشركات المنضمة 717 شركة، منها 80% تعمل في صناعة النسيج والملابس الجاهزة، و20% في صناعات متنوعة.
وقد تراوح رأسمال 220 مصنعًا منها بين 5 ملايين و100 مليون جنيه للمصنع الواحد، بينما بلغ رأسمال 497 مصنعًا أقل من 5 ملايين جنيه، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء http://www.capmas.gov.eg واستمر تزايد عدد الشركات المنضمة إلى الاتفاقية حتى تجاوز 1,200 شركة مسجلة في عام 2023، وارتفعت صادرات تلك الشركات من 288.6 مليون دولار في عام 2006 إلى 1.5 مليار دولار في سبتمبر الماضي، وفقًا لآخر بيان صادر عن مفوضية التجارة الأمريكية الدولية.
ويعني ذلك أن الشركات الإسرائيلية والمصرية والأمريكية قد حققت أرباحًا طائلة خلال تلك الفترة، حيث تقوم الشركات الإسرائيلية بتصدير المواد الخام إلى الشركات المصرية، التي يعتمد عمالها على تصنيع وإنتاج المنتجات، ليتم تصديرها إلى الولايات المتحدة، حيث تُباع في الأسواق الأمريكية بأسعار تنافسية. وبذلك، يحقق الجميع مكاسب؛ فالموردون والمصنعون والتجار هم فقط الرابحون.


عمالة رخيصة بلا حماية
قدّر عدد العاملين في الشركات والمصانع المنضمة إلى الاتفاقية بنحو 324.1 ألف عامل وعاملة بنهاية عام 2008، أي بعد عامين من دخولها حيز التنفيذ، ليصل عددهم المقدر حتى نهاية 2023 إلى ما يقرب من 750 ألف عامل وعاملة.
إلا أن هذه العمالة اتسمت بانخفاض أجورها، التي لم تحقق لها فائدة اقتصادية تُذكر، وفقًا لوصف صحيفة Foreign Affairs (Commercial Diplomacy in the Middle East | Foreign Affairs). بالإضافة إلى ذلك، شهد القطاع ارتفاعًا في معدل دوران العمالة والاعتماد بشكل أكبر على النساء، خاصة في صناعة النسيج والملابس الجاهزة.
وانعكس ذلك بدوره على سلسلة من الإضرابات والاحتجاجات التي طالت معظم تلك الشركات والمصانع، كما يوضح الجدول التالي، الذي يقدم مثالًا وليس حصرًا على تصاعد وتوسع تلك الإضرابات، ما يؤكد ما أشارت إليه الصحيفة المذكورة آنفًا.

)المصدر: إعداد الباحث، اعتمادًا على بيانات وحدة الكويز، وزارة التجارة والصناعة، والمواقع والصحف المصرية)
يتضح من خلال الجدول السابق مدى تردي أوضاع العمال في الشركات المنضمة لاتفاقية الكويز، حيث تصدرت مطالبهم برفع الأجور وزيادة العلاوة الدورية وتطبيق الحد الأدنى للأجور قائمة المطالب العمالية، يليها تأخر أصحاب الشركات والمصانع في صرف أجور العمال التي هي في الأصل متدنية لعدة أشهر. كما شملت مطالب العمال قضايا تتعلق بحساب الإجازات وساعات العمل، إضافة إلى حالات الفصل التعسفي التي أصبحت شائعة في العديد من المصانع والشركات الخاضعة للاتفاقية.
وأكدت الدراسة التي أعدتها منظمة العمل الدولية، والتي قامت بإعدادها الدكتورة هويدا عدلي تحت عنوان “أوضاع العمال في الصناعات التصديرية المصرية، مع التركيز على قطاعات النسيج والملابس الجاهزة والصناعات الغذائية”، على وجود صعوبات وتحديات كبيرة واجهت فريق البحث أثناء جمع المعلومات، حيث تمثلت في شح البيانات، وعدم دقة المتوافر منها، إضافة إلى إحجام وتخوف كل من أصحاب الأعمال والعمال عن تقديم المعلومات لفريق البحث.
ورغم هذه التحديات، خلصت الدراسة إلى عدة نتائج مهمة، حيث أشارت إلى غياب التفتيش من قبل وزارة العمل، ما جعل بيئة العمل غير خاضعة للرقابة الكافية، فضلًا عن ضعف المنظمات النقابية في بعض الشركات، وغيابها تمامًا في شركات أخرى، مما حرم العمال من أي مظلة تحمي حقوقهم. كما أكدت الدراسة غياب أي حوار بين الإدارة والعمال، وهو ما دفعهم إلى استخدام الإضراب والاحتجاج كوسيلة وحيدة للمطالبة بحقوقهم، في ظل غياب أي آليات أخرى للتفاوض الجماعي أو تحسين أوضاعهم المعيشية.
ويبدو واضحًا أن العمال وحدهم هم من يتحملون العبء الأكبر لهذه الاتفاقية، التي حققت ملايين الدولارات من الأرباح لأصحاب الشركات الإسرائيلية والمصرية والأمريكية، والذين تقاسموا فائض قيمة العامل المصري، بينما تركوه في أسوأ وضع اقتصادي، وبدون أي حماية قانونية. إضافة إلى ذلك، لم يتم تطبيق القوانين ذات الصلة بحماية العمال، وانتهكت الاتفاقية معايير واتفاقيات العمل الدولية، خصوصًا تلك المتعلقة بالأجور العادلة، الحد الأدنى للأجور، ساعات العمل، والإجازات، مما جعل العمال المصريين الطرف الأضعف في هذه المعادلة الاقتصادية، التي استفاد منها الجميع باستثنائهم.