عبدالحميد ندا يكتب: الإيجار القديم.. من أزمة عمرانية إلى أداة للتطوير الحضري
مقدمة
في ظل الارتفاع الجنوني في أسعار الوحدات السكنية، حتى تلك التي تُطرح من قبل وزارة الإسكان على أنها “مدعومة” أو “مخصصة لمتوسطي الدخل”، يجد المواطن نفسه محاصرًا بين خيارين غير واقعيين: شراء شقة بأسعار تفوق دخله لسنوات طويلة، أو الإقامة في مساكن قديمة متهالكة تخضع لعقود إيجار جُمّدت منذ عقود دون تطوير. وبينما تواصل الحكومة الإعلان عن مشروعات إسكان كبرى ومدن جديدة، فإن السياسات السكنية الفعلية ما زالت عاجزة عن تلبية الحاجات الأساسية للملايين من محدودي ومتوسطي الدخل.
وفي هذا السياق، طرحت الحكومة مقترحًا لتعديل قانون الإيجار القديم، يركز في جوهره على تحرير العلاقة الإيجارية بالكامل خلال فترة زمنية قصيرة دون تقديم بدائل حقيقية أو مراعاة للعدالة الاجتماعية أو العمر الإنشائي للمباني. ورغم أن المشكلة تحتاج إلى إصلاح فعلي، إلا أن المقترح الحكومي يتعامل مع الإيجار القديم كأنه عبء يجب التخلص منه لا كملف يجب إعادة هيكلته بتوازن.
إن المقاربة الحالية تُخاطر بخلق موجة من النزاعات المجتمعية وتُعرض آلاف الأسر لخطر الإخلاء القسري أو التهجير، دون حلول واقعية تُعيد دمج هذه الوحدات في دورة التطوير العمراني. ويُغفل المقترح الحكومي الحاجة إلى نموذج تدريجي عادل، يُراعي العمر الافتراضي للعقارات، ويُبقي على مفهوم الإيجار كحق سكني منظم وليس كامتياز دائم أو عبء مؤبد.
لذا فإن التعامل مع الإيجار القديم يجب أن يكون بمنهج إصلاحي مرن، لا تقويضي أو متسرع، بحيث يتحول من معضلة تاريخية إلى أداة حقيقية لإعادة إحياء النسيج العمراني للمدن، وتوفير حلول سكن واقعية خارج إطار التمليك باهظ الثمن.
أولًا: الإيجار القديم… ما المشكلة الحقيقية؟
المشكلة في الإيجار القديم لا تكمن في مبدأ الإيجار ذاته، بل في تجميد العلاقة التعاقدية دون مرونة تشريعية تُراعي التغيرات الاقتصادية والاجتماعية. فقد وُضعت قوانين الإيجار القديم في فترات تاريخية خاصة، بدافع حماية المستأجرين، لكنها استمرت لعقود دون تعديل، ما أدى إلى نتائج عكسية على المدى الطويل.
تدهورت قيمة الإيجارات إلى الحد الذي جعل كثيرًا من الملاك عاجزين عن صيانة عقاراتهم أو حتى الاستفادة منها، بينما تُورَّث العقود في بعض الأحيان دون مراجعة الحاجة الفعلية للمسكن. هذا الجمود خلق بيئة عمرانية راكدة، تفتقر إلى التطوير أو التحديث، وأدى إلى تفاقم أزمة السكن، خصوصًا في ظل ضعف العرض الجديد بأسعار معقولة.
نتيجة لذلك، أصبحت آلاف العقارات القديمة حبيسة علاقات إيجارية مجمدة، لا تسمح بتدوير الوحدات أو إعادة استخدامها بكفاءة، وهو ما يحرم الشباب من فرص السكن في المناطق المركزية، ويجعل الملاك عاجزين عن إعادة إحياء هذه الأصول العقارية.
ثانيًا: لماذا التمليك ليس دائمًا الحل؟ وكيف ساهم في تفشي العشوائيات؟
رغم أن التمليك يبدو أكثر حرية على السطح، إلا أنه أثبت في الواقع العملي أنه ليس بالضرورة النظام المثالي. تفتيت الملكية بين عدد كبير من الشاغلين يجعل اتخاذ قرارات جماعية بشأن الصيانة أو إعادة البناء أمرًا بالغ الصعوبة، ما أدى إلى تدهور تدريجي لعدد كبير من العقارات حتى في المناطق المخططة والراقية.
أما على أطراف المدن وفي المناطق غير المنظمة، فقد أدى غياب أنظمة إيجارية عادلة إلى دفع المواطنين للبناء الذاتي على الأراضي الزراعية أو خارج إطار التنظيم، بهدف التملك بأي وسيلة. هذا التوجه خلق ظاهرة العشوائيات، حيث انتشرت مئات الآلاف من الوحدات التمليكية، لكنها تفتقر للبنية التحتية والخدمات الأساسية، وتعاني من هشاشة عمرانية وهيكلية.
ما حدث فعليًا هو أن انسحاب الدولة من تنظيم العلاقة الإيجارية دفع المواطنين لحلول فردية غير مستدامة، وحوّل أزمة الإسكان إلى أزمة عمرانية واجتماعية مركبة.
نموذج إصلاحي: الإيجار المتناقص المرتبط بالعمر الافتراضي
أحد الحلول العملية لتحديث نظام الإيجار القديم هو ربط قيمة الإيجار بالعمر الإنشائي الفعلي للعقار. فكلما تقدم المبنى في العمر واقترب من نهاية عمره الافتراضي، انخفضت القيمة الإيجارية تدريجيًا، بما يعكس تراجع جودة المسكن وتزايد المخاطر الإنشائية. هذا الانخفاض المنهجي في الإيجار يجب أن يكون مُبرمجًا وفق جداول زمنية وتشريعية واضحة، تحفظ التوازن بين حق المالك في عائد عادل وحق المستأجر في سكن آمن ومناسب.
وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تكون العقود محددة المدة، وغير قابلة للامتداد اللانهائي، بل مرتبطة بالعمر الافتراضي للعقار كما تحدده التقارير الهندسية الدورية. وعند انتهاء هذه المدة أو ثبوت عدم صلاحية المبنى إنشائيًا، تُعاد العلاقة التعاقدية بالكامل إلى التفاوض أو الإخلاء العادل، تمهيدًا لإعادة البناء أو إعادة التوزيع الحضري.
هذا النموذج يُحوّل العلاقة الإيجارية من حالة “تجميد” إلى حالة “دورة حضرية” تتفاعل مع واقع العقار وتُشجّع على صيانته وتدويره، بدلًا من أن تكون عائقًا أمام التطوير أو ذريعة للإهمال والانهيار.
الخاتمة
الإيجار القديم، رغم مشكلاته التاريخية، ليس جريمة عمرانية بحد ذاته، بل هو ضحية لتجميد تشريعي طويل وغياب الرؤية الإصلاحية. والحل ليس في إلغائه كليًا، بل في إعادة هيكلته ليواكب الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ويصبح أداة فعالة لتدوير العقارات وتوفير سكن مناسب دون الحاجة لشراء باهظ.
أما التمليك المطلق، فقد أثبت أنه ليس الحل النموذجي كما يُروّج، بل كان أحد أسباب الجمود العقاري في المناطق المنظمة، ومولدًا للعشوائيات خارج التنظيم، خصوصًا في ظل غياب آليات لإدارة الملكية الجماعية بفعالية.
وإذا كانت الدولة جادة في مواجهة أزمة الإسكان، فعليها ألا تكتفي بطرح وحدات بأسعار تفوق قدرات أغلب المواطنين، بل تتبنى تشريعًا جديدًا للإيجار العادل، يربط الإيجار بالدخل، وبحالة العقار وعمره، ويُدخل السوق المؤجرة في دورة تطوير حضرية متجددة فالإصلاح الحقيقي يبدأ عندما تعترف السياسات بأن السكن ليس سلعة فقط، بل حقٌ اجتماعي يجب صيانته بالتوازن والعدالة.