ريهام الحكيم تكتب: من مؤتمر “اللاءات” الثلاثة إلى التطبيع مع إسرائيل.. لماذا اختار السودان الجزرة الأمريكية؟

أقدم رئيس المجلس السيادي السوداني الانتقالي عبدالفتاح البرهان، ورئيس الحكومة السودانية الانتقالية عبدالله حمدوك، للحاق بركب التطبيع والإعتراف بدولة إسرائيل بعد أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأسبوع الماضي، أن اسم السودان سيُرفع من قوائم “الدول الراعية للإرهاب” بمجرد دفع 335 مليون دولار تعويضات لضحايا الإرهاب الأميركيين وعائلاتهم.

اتفاق التطبيع هو جزء من خطوة سعى لها سودان ما بعد عمر البشير في رفع أسم السودان من على قوائم الإرهاب ، ففي 1993 أقدم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون على وُضع السودان على قوائم “الدول الراعية للإرهاب”، وذلك عقب استضافته زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن، وهو ما تبعه فرض واشنطن مجموعة من العقوبات الاقتصادية على السودان بدءاً من عام 1997.


استمرت هذه العقوبات أكثر من عشرين عاماً، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأميركية إلى السودان فضلاً عن إلزام المستثمرين الأميركيين، شركات وأفراداً، بوقف التعاون الاقتصادي مع السودان باعتباره مصدر تهديد للأمن القومي للولايات المتحدة.  

مُنع السودان من استيراد أي قطعة غيار ومدخلات الإنتاج، إضافة إلى منع الدولار من التداول في البنوك السودانية وعزل السودان عن الشبكة المصرفية الدولية، وعجز أي مؤسسة دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمات الخيرية ودول العالم جميعاً، بما فيها الدول العربية، عن القدرة عن أي دعم أو مساعدة أو استثمار في السودان طوال أكثر من 25 سنة، بسبب ذلك القرار المميت. أقول إن كل مَن لا يعرف هذه الخلفية القاسية عن أسباب استجابة الحكومة السودانية لهذا الخيار المشروط .

الاقتصاد السوداني يعاني الإنهيار، بإعتراف وزيرة المالية السودانية هبة محمد علي والتي اشارت  إلى وجود 5 أسعار للصرف، مؤكدة أنه “أمر غير موجود في أي دولة في العالم”.

ومن المتوقع أن تتمكن المؤسسات المالية في السودان ديسمبر المقبل، أن تعيد إنشاء علاقات مصرفية مع البنوك الغربية في أميركا وأوروبا، بالإضافة إلى ملف إلغاء الديون والالتزامات المستحقة على السودان والذي يعمل السودان عليه حاليا مع صندوق النقد الدولي ، ديون تقدر بـ 60 مليار دولار ،منها 700 مليون دولار للولايات المتحدة الأميركية.

الثورة السودانية لم تنشد التطبيع

في ديسمبر 2018،  ثار السودانيون ضد نظام عمر البشير ، وبعد ثلاثين عاماً استطاع الشعب السوداني إسقاط نظام البشير في 11 أبريل 2019، تلك الثورة التي مكنت  الشعب السوداني من التخلص من ذلك النظام العقيم، والذي شهد السودان في عهده خوضاً لحربين أهليتين كُبريتين، انتهت الأولى بانفصال جنوب السودان عام 2011، والثانية انتهت بدمار إقليم دارفور الذي راح ضحية الحرب فيه، أكثر من 300 ألف مواطن.

قاد الثورة السودانية الأخيرة تجمع المهنيين السودانيين بالإضافة إلى تجربة شراكة نادرة بعد الثورة بين المدنيين والعسكر في إدارة المرحلة الانتقالية، بتوقيع الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي – الشراكة بين العسكر والمدنيين في إدارة المرحلة الانتقالية- برعاية الاتحاد الأفريقي في أغسطس 2019

 السودان التي استضافت مؤتمر “اللاءات” الثلاثة الشهير المناهض للتطبيع مع إسرائيل عام 1967، عندما أقسمت جامعة الدول العربية، في اجتماعها في العاصمة الخرطوم، بأن “لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات معها“.

كما خاضت السودان حربا ضد إسرائيل عامي 1948 و 1967 ووفرت ملاذا لجماعات حرب العصابات الفلسطينية ويشتبه في أنها أرسلت أسلحة إيرانية لمسلحين فلسطينيين في غزة قبل عدة سنوات مما أدى إلى شن غارات جوية إسرائيلية مزعومة ضدها.

وبعد الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير، العام الماضي، واستبداله بمجلس عسكري مدني انتقالي. تغيرت الديناميكيات السياسية في السودان. فقد دعم القادة الجدد للسودان، المسيطرون الحقيقيون على السلطة في المرحلة الإنتقالية، إقامة علاقات مع إسرائيل كوسيلة للمساعدة في رفع العقوبات الأمريكية عن السودان وفتح الباب أمام المساعدات الاقتصادية التي تعتبر السودان في أمس الحاجة إليها.

تعتبر السلطة الانتقالية الحالية هذا الملف ذو أولوية بالنسبة إليها منذ استلامها مقاليد الحكم ، حيث أعلن رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك عقب أدائه اليمين الدستورية، أنه بدأ اتصالات مع الإدارة الأميركية لبحث رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

وبينما اعتبر الكثيرون إقدام عبد الفتاح البرهان على خطوة التطبيع محاولة لإطالة عمر أنظمة القمع العربية فهو نظام ليس بديمقراطي وليس مخولاً لإقامة مثل تلك المعاهدات. فعبد الفتاح البرهان وعبدالله حمدوك ، كلاهما لا يملكان تفويضاً للتطبيع مع إسرائيل كما يتناقض الاتفاق مع طبيعة المهمة المنوطة لهما، للأخذ بيد السودان للعبور من المرحلة الانتقالية، التي حددتها الوثيقة الدستورية لحكم الفترة الانتقالية بعد عزل الرئيس السوداني عمر البشير”.

 والان تقع الثورة السودانية ، التي لم تنشد التطبيع ، بين خياريين مأساويين لا يبشران بالخير على الأقل في المستقبل المنظور، ألا وهما الثبات على أوضاع مرفوضة دون تغيير، أو انهيار الدولة وسلامتها.

وبين موازنة حتمية التغيير وتحديد المصير وخروج السودان من محطة الانهيار الاقتصادي ، سارعت الادارة الانتقالية الجديدة للسودان بإختيار الجزرة الأمريكية ، رفع العقوبات الاقتصاديه عن السودان مرتبط بتطبيع العلاقات مع اسرائيل ، وهو توقيع إتفاق سلام ينهي عزلة السودان ويعيده إلى الأسرة الدولية. فهل تنجح الجزرة الأمريكية، أم أن ميراث 30 عاما سيفرض نفسه لتدفع السودان الثمن للمرة الثانية بعد أن شاركت في تدعيم قواعد العصر الإسرائيلي واستدعاء الحل من الخارج بدلا من خطة حقيقية لتنمية داخلية؟ هل يصلح رهان السادات على الحل الأمريكي الذي دفعت مصر ثمنه لاصلاح ما أفسده البشير؟ أم أن حكام السودان الجدد يعيدون انتاج الأزمة برهانات ثبت فشلها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *