د.يحيى القزاز يكتب: دولة خردة

أعترف بالجبن، ولا أعتذر عنه، ولا أبرره فهو واقع ينطق. إنه المرحلة الوسطى بين الخوف والاستعباد. والخوف آفة الإنسان وأعراضه الصمت والاستعباد هو الانسحاق تحت الاقدام، والجبن هو الهروب من الانضمام للناس في محنتهم، وعدم مواجهة قضايا تثير الناس وتشغل الرأي العام، وهو هروب من سوء المصير، من استبداد أحكم قبضته على رقاب البشر، وسحق الإنسان حتى صار حشرة يهتف باسم الجلاد أكثر ما يهتف باسم بالله (والعياذ بالله)، والتبرير بأن الحدث مؤقت، لزوم مرحلة مؤقتة.

مرحلة اتسعت في الظلم بمساحة الكون، وتمددت في القهر بطول المسافة بين الأرض والشمس، وضاقت على المواطن كسم الخياط، فلم يعرف له مخرجا. مرحلة صار المؤقت فيها ثابت والاستثناء عام، والكذب حقيقة والرياء انصاف.

وأنا أكتب اليوم لا أدعى يقظة – فأنا لم أغفو ولم أسكر- ولا بطولة، لكننى أعترف بما أصابني من جبن في محاولة لإيقافه قبل أن أرزح تحت نير الاستعباد باسم الحاجة والضرورة والظرف والتبرير الشيطانى، وأنا من عشت حتى أبحرت في العقد السابع وشعارى الذي ارتضيته وصغته وحملته على كاهلى: “إزهد يارجل وكن سيدًا لاحتياجاتك لا عبدا لها، تنجو من الفتن والمهالك، فتكن سيدا للعالم لا عبدا لظالم”.

بالرغم من أحلامى المتواضعة واحتياجاتى البسيطة، وأنا من البسطاء وعامة الناس الذين لانحلم إلا بالحرية ووطن مستقل، وكسرة خبز نقيم بها صلبنا، وتعليم مجانى وتأمين صحى يضمنان سلامة التفكير ومواجهة العدو.
التعليم والصحة هما من أهم ركائز تقدم الدول، من يملك العلم -أقصد انتاجه لا استيراده – يملك القوة والحرية والسيادة والاكتفاء الذاتي، لم نحلم بثروة ولا سلطة ولاجاه.. فقط بالستر والحرية. فهل هذا كثير علينا نحن البسطاء الفقراء غالبية الشعب وأصل الدولة وركيزة الوطن للاستقرار؟!

نعيش عصر التخريب والتفريغ، عصر بيع أعضاء الدولة (القطاع العام)، وتفريغها من أحشائها (أرصدتها)، البيع الممتد منذ عهد الرئيس المخلوع مبارك وحتى الآن، بحجج خسارة الشركات وعدم صلاحيتها وأنها صارت “خردة”.

الآن تتسارع وتيرة البيع، ففي عام تقريبا قامت وزارة قطاع الأعمال بتصفية الشركة القومية للأسمنت، وشركة ناروبين للكاوتشوك، وحاليا بصدد تصفية شركة الغزل والنسيج بكفر الدوار، وشركة أسمدة طلخا، وشركة الحديد والصلب بحلوان. وكما ذكر عامل الحديد والصلب سابقا الأستاذ كمال عباس والمنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية وعضو المجلس القومى لحقوق الإنسان الحالي في رسالته لمجلس النواب “كل هذه الشركات سوف تخرد خطوط إنتاجها، ويشرد عمالها وتباع أراضيها للمطورين العقاريين.. فعن أي مشروع للدولة نتحدث؟ ما هو مشروعنا للمستقبل كمبوندز وملاهى”.. تساؤل في محله، وإجابة مخجلة.

الماضى القريب يخبرنا بكيفية انشاء الصناعات الاستراتيجية وبناء السد العالى واقتحام خط بارليف بخراطيم المياه المدفوعة. تم هذا على أيدى مؤسسات الدولة الوطنية وعقول شبابها العلماء والمهندسين الوطنيين. مصر لم تنضب من العقول والكفاءات الوطنية، لو ناداهم المسؤلون لـ لبوا ولو استعانوا بهم لهرولوا إلى المصانع، أصلحوا ما خُرب وطوروا ما تأخر، ونهضوا بما تلكأ.

الصناعات الضخمة هي عصب الدولة وأهم أسباب قوتها محليا وعالميا. تخريب المصانع الاستراتيجية وتفريغها وبيعها لأنها خردة وغير صالحة، هو تجريد الدولة من قواها وجعلها “دولة خردة” غير صالحة، والدولة الخردة لا لزوم لها وسعرها في السوق العالمى بين الدول رخيص. ونظامها أيضا خردة لا قيمة له. قوة النظام الحاكم من قوة الدولة.. ولننظر غربنا.

أعتقد أن أي نظام وطنى لن يقبل بدولة خردة ونظامها خردة، نطالب الرئيس السيسى بالتدخل وفض الاشتباك بين البائع وزير قطاع الأعمال والشعب صاحب الشركات المعروضة للبيع لصالح مصر ومنع البيع، ويمكن بيع الشركات للمصريين من خلال أسهم في اكتتاب شعبى كما فعلت عند إنشاء مشروع شرق تفريعة قناة السويس.. وإلا فلماذا الكيل بمكيالين؟! عدم تدخلك محسوب عليك، وإن بيعت الشركات فهو منسوب إليك، والجميع يعرف أن كل شيء يحدث في مصر يتم بأوامرك وبناء على توجيهاتك مهما صغر حجمه وقل ثمنه. انت المسئول عن كل شيء لا سواك. التاريخ يسجل الأحداث ولا يرحم صانعيه، وأظنك قرأته وعاصرته، ورأيت حكمه على من سبقوك. القرار قرارك. كلامى وان بدا على غير هوى السلطويين أصحاب البلاغات  فهو فى حقيقة الأمر تبصرة للنظام للخروج من مأزق والانحياز للشعب.

مهما كانت العواقب التي تنتظرنا فمن المؤلم بل من العار أن يصمت المرء وأهله يشردون يتسولون في الشوارع، ويموتون من القهر والجوع. إن السجن برغم قسوته وظلمته أهون علينا من أن نرى مصر تخرب وأعضائها تعرض للبيع في سوق النخاسة كما يبيع المرء أعضاءه مضطرا لسد احتياجاته. مصر دولة عريقة قديمة وإن جار عليها الزمن فهى تاريخية وغير مسموح لنا بأن نجعلها خردة.

لمصلحة من تخريب وتفريغ مصر وبيعها خردة؟!

#المقاومةهىالحل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *