د. أحمد الخميسي يكتب عن “أبطال في صمت”: فرحانة سلامة.. فدائية مصرية في صفوف الأبطال.. النار والعطر (كراسات التحالف)

نحن نحب المرأة ونعشقها، فهي الأم التي هدهدتنا ونحن صغار، أطعمتنا وسهرت الليل كله بجوارنا إلى أن نغفو، نحن نحب المرأة فهي الأخت الغالية التي تهب إلى نجدتنا ساعة الضيق، وهي زميلة العمل والزوجة الحنون. لكننا لا نعرف قدرات المرأة ولا نتخيل أنها قد تتحول في لحظة من العطر الرقيق إلى بارود مشتعل إذا تعرض الوطن إلى الخطر. وحينئذ نرى وجها آخر مذهلا، بطلا، وجسورا.

من أولئك النساء كانت الروسية “لاريسا رايسنر” التي وصفها الأديب فاديم أندرييف قائلا: “لم يكن هناك رجل واحد يمر بها دون أن يتجمد فى الأرض كالعامود يتابعها بنظراته حتى تختفى، ولم يكن ثمة شخص يجرؤ على الاقتراب منها، فالكبرياء التى تشبعت بها كل حركة من حركاتها وكل انعطافة من رأسها كانت تحميها بجدار صخرى لا يدمر”.

وقد تحولت “لاريسا” إلى أسطورة في أعقاب ثورة 1917 التي أسقطت الحكم القيصري في روسيا، وكان ذلك ليلة استيلاء الثوار على القصر الشتوي للقيصر، حين ظهرت لاريسا على سطح المدرعة “أفرورا”، وحدها بين البحارة الثائرين الذين علا الغضب وجوههم. كانت “لاريسا” المرأة الوحيدة التي ظهرت بين جموع الرجال وقد تدلت من رأسها ضفيرتان من الشعر الأسود الفاحم، كأنها تمثال من المرمر للجمال. وكان مقدرا لها أن تكون هي – ولا أحد سواها – من يعطي الأمر بإطلاق المدافع من المدرعة البحرية على القصر الشتوي، لتعلن بذلك انتصار ثورة 1917 التي نقلت روسيا من حال إلى حال. توفيت “لاريسا” وهي في الحادية والثلاثين بعد أن عاشت حياة قصيرة مثل وردة من النار والعطر.

وفي تاريخنا المصري زهور من أرضنا، من نسائنا، لدينا “فرحانة سلامة” التي ولدت في 4 سبتمبر 1925 في سيناء، وعندما شنت إسرائيل عدوانها الإجرامي على مصر عام 1967 واحتلت سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان السورية انتقلت فرحانة حسين سلامة من سيناء وقصدت منطقة إمبابة في القاهرة للعيش والكفاح وتربية أولادها. طوت فرحانة صدرها على حزنها بسبب الهزيمة في 1967، وسالت دموعها وهي تستمع إلى خطاب التنحي الذي ألقاه عبد الناصر في 9 يونيو، وراحت في امبابة ، الحي السكني الجديد عليها، تسأل: كيف يمكن لي أن أخدم بلدي؟ كيف يمكنني أن أساهم في رد العدوان؟. ووجدت فرحانة الاجابة عند ابنة عمها التي فتحت لها الطريق.

في تلك الأثناء كانت المخابرات المصرية قد أنشأت “منظمة سيناء” التي تتولى تدريب الفدائيين على حمل القنابل وإشعال الفتيل وطرق التفجير وتلقى الأوامر من القيادة والرد عليها من داخل سيناء، وكانت التدريبات تتم بدقة وفي سرية تامة. وحين انتهت التدريبات بدأت فرحانة تسافر إلى سيناء لتنفيذ العمليات الفدائية، ويقول ابنها شوقي عن تلك الفترة: “كانت أمي كانت تغيب عن المنزل ونحن صغار ولمدة طويلة قد تصل إلى أكثر من شهر وعندما تعود كانت تقول لنا “إنها تشتري قماشاً وتسافر لبيعه في سيناء لكي تدبر لنا المصاريف والاحتياجات بعد انفصال والدي عنها”.

في رحلاتها إلى سيناء كانت فرحانة تنزل في بيتها الواقع في مدينة الشيخ زويد التي تبعد عن العريش عاصمة محافظة شمال سيناء بنحو 30 كيلو مترا، وهناك أشاعت بين الجيران أنها تتاجر في الأقمشة، ولم يشك أحد في أنها “تاجرة قماش”، ذلك أن التقاليد البدوية في سيناء تمنع ظهور المرأة بين الرجال، ناهيك عن أن تخرج إلى ميدان المعارك.

هكذا تخفت فرحانة سلامة إلى أن حان موعد أولى العمليات الفدائية، فقامت بغرز قنبلة في طريق قطار العريش قبيل وصوله بلحظات، وكان القطار محملا بالجنود الاسرائيليين، وفجرت القنبلة القطار في لحظات قليلة لتسجل فرحانة سلامة أولى عملياتها الفدائية. وبعد ذلك توالت العمليات وكانت فرحانة تترقب سيارات الجيب الاسرائيلية التي تمر في صحراء سيناء، وقبل أن يقترب رتل السيارات كانت فرحانة تقوم بإشعال فتيل قنبلة معها وتلقيها بسرعة في طريق السيارات فتتحول في لحظة إلى قطع متطايرة من الحديد المشتعل. وكانت فرحانة تسافر إلى القاهرة من وقت لآخر لتنقل الرسائل والذخائر من القيادة إلى الفدائيين في منظمة سيناء. وقد ذكرت أنها كانت تستقل قاربا ينقلها إلى الضفة الشرقية من القناة وقد خبأت عددا من القنابل بين ثيابها، وكان القارب يضم عددا آخر من الركاب، وصعد الاسرائيليون للتفتيش، وتسارعت دقات قلبها خوفا من أن يكتشفوا القنابل التي تحملها، لكن الله سلم ولم يقتربوا منها.

هذه المرأة الشجاعة، التي تشكلت من عطر الأمومة ونار الوطنية، أخفت حتى عن أبنائها أنها فدائية، ومقاتلة، وقد قال ابنها شوقي بعد أن توفيت في 11 أغسطس 2014: “لم نعرف شيئا عن بطولات أمنا إلا بعد انتهاء معارك أكتوبر 1973 عندما كرمها الرئيس السادات، ومنحها وسام الشجاعة من الدرجة الأولي ونوط الجمهورية. وطن تولد فيه فرحانة سلامة يحق لي أن أفخر به وأن أعلن بملء صوتي أنني سعيد أنني ولدت هنا على الأرض التي نمت فوقها زهرة النار والعطر: فرحانة سلامة، كما يحق لي أن أتذكر ثانية وثالثة ما كتبه والدي في مقدمة كتابه “المكافحون” عام 1951: “ومصر السخية العظيمة، مصر العروس الخضراء التى تتفتح العيون على سحرها وفتنتها، جديرة بأن نقدسها ما طلع الصباح وما جرى النيل وما دبت فى أجسادنا الحياة وخفقت بين صدورنا القلوب”.

حول المقال:

المقال ضمن سلسلة “كراسات التحالف” للأدبيات الإليكترونية الصادرة عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، والتي تحتوي على مقالات أدبية وسياسية بقلم الكاتب الدكتور أحمد الخميسي.

و”كراسات التحالف” هي سلسلة من الأدبيات الإلكترونية، تصدر عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي.

وتحتوي نسخة “كراسات التحالف” الحالية على بروفايلات ورسائل شكر وتقدير لعدد من السياسيين والفاعلين في المجتمع وآخرين فارقوا الحياة بعد نضالهم من أجل حياة أفضل.

وشملت الكراسات بروفايلات عن الشهيدة الراحلة شيماء الصباغ، والتي استشهدت بالقرب من ميدان التحرير في الذكرى الرابعة للثورة عام 2015 أثناء إحياء حزب التحالف الشعبي وقفة بالشموع والورود.

أيضا شملت الكراسة بروفايل عن “طبيب الغلابة” الراحل الدكتور محمد مشالي، وأيضا الدكتورة منى مينا عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا لدورها الكبير في مواجهة فيروس كورونا والتوعية بمخاطر العدوى، والدكتور الكبير محمد غنيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *