حنان فكري تكتب: أزمة زكريا بطرس..الحب للندية والخوف للذمية

كل ما يجري يدعو للرثاء، كلمة تُهيج السخط فينا، واعتذارات الكون لا تكفينا، صرنا نحاساً يطن وصنجاً يرن، فلا سلام ولا إطمئنان ولاروية، أقول هذا لكل الأطراف، بعدما كشفت أزمة القمص المقطوع من الكنيسة، زكريا بطرس المقيم في أمريكا، عن مواضع خلل رهيبة في آداء كل الأطراف، فبالرغم من أن الجميع يعلم أن مقطع الفيديو الذي تم الترويج له لأسباب غير معلومة، ويعود إنتاجه لأكثر من عشر سنوات مضت، يحمل كلاماً مكرراً لكاهن تبرأت الكنيسة من انتسابه الى تعاليمها، لأنه يسيء للأديان، وجاء ذلك في بيان رسمي لها اكثر من مرة، وقدمت اعتذاراً عن تفاصيل لا علاقة لها بها.

إلا أننا ما زلنا حتى اللحظة نسمع الوعيد والتهديد والوصف بأن الاقباط عباد الصليب، ويجب أن يدفعوا ثمن ما فعله هذا الرجل، ومن لا يصدق فليقي نظرة سريعة على تعليقات المواطنين الصالحين المدافعين عن دينهم على صفحات التواصل الاجتماعي، فقد تحولت حسابات وصفحات الموتورين من المتأسلمين الى مواقع تحريضية، تبث الكراهية.

لفئة كاملة من شركاء الوطن بسبب رجل واحد عمره يتخطى الثمانين عاماً يحيا خارج الوطن. ألا يدعو ذلك للدهشة؟
لكن الدهشة لم تقتصر على الآداء التحريضي الذي واجهه بعض الأقباط بسيل من اعتذارات المبالغ فيها، لكنها تمتد إلى تحول الاعتذارات إلى وقود للمعركة الكلامية، فلم يكفِ اعتذارالكنيسة، ومنهج لاثبات الولاء والحفاظ على المصالح بين اغلبية قد تتأثر بالشحن، حتى أن عدداً ليس بقليل من الشخصيات العامة، وغير العامة من المسيحيين قام بتقديم اعتذارات على مواقع التواصل الاجتماعي، أملاً في تهدئة الجو العام المشحون ضد الاقباط، بسبب الفيديو، وكأن إعادة انتاج بثه، حدثت خصيصاً لحشد الناس ضد بعضهم البعض، ألا يثير ذلك تساؤلات ومخاوف في ظل الغاء قانون الطوارىء واقتراب اعياد راس السنة والميلاد المجيد؟

يبدو أن المخاوف طالت الجميع، وبدا الخوف واضحاً على آداء المسيحيين، الذين راحو يوزعون المصاحف في الشوارع، في حين أنهم لم ولن يجرأوا على توزيع الأناجيل يوماً ما وإلا لطالتهم اتهامات التبشير، فما زلنا نحيا في عهد لم يعر ف فيه الأغلبية معنى المواطنة الحقيقي، وتسود فيه ثقافة الذمية، التي انتجت طوفان الخوف، نعم إنه الخوف من موجة جديدة من العقاب الجماعي، ذلك الخوف الذي على أثره انقلب الموقف ووضع بعض المسيحيين صيغة “إلا رسول الله “على صفحاتهم في الفيس بوك. بالرغم من أنني لم أر شخصاً منهم كتب عند التعرض للهجوم على الكنائس “إلا المسيح، او إلا الكنائس” مثلاً.

وهذا ليس استنكاراً ولا تحريضاً لفعل ذلك، ولا استنكاراً لما فعلوه، ولكنه محاولة صريحة لتحليل سلوك ورد فعل بعض الأقباط، في ضوء المبالغات التي تُحَمِل فئة ما، مسؤولية أخطاء أي شخص في الكون تجاه فئة أخرى. هي محاولة لفهم اتجاهات الناس نحو ماضٍ من العنف المُمنهج ضد الأقباط، أثر على سلوكهم الحالي والمستقبلي وضاعف من حساسيتهم تجاه مواقف ليسوا مسؤولين عنها.

ما علينا، ما أقوله مجرد ملاحظات شخصية على بعض ما رأيته من مبالغات أحسبها خوفاً اكثر مما هي تاكيد على الاحترام والمحبة، فمن المؤكد أنني اؤيد احترام العقائد والآخر الديني، وأنبذ أي اعتداء بالإهانة او الإزدراء على العقائد والأديان، لكن دعونا نتصارح بانصاف، ما ذنب الجميع؟ ليس مطلوباً ممن لم يصدر عنه فعلاً مشيناً أن يقدم اعتذاراً مهيناً، فاقباط مصر ليسوا مسؤولين عن العالم كله، وكل شخص مسؤول فقط عن افعاله واقواله، كما أنه ليس من المعقول أن تكون الكنيسة مسؤولة عن كل شخص مدون في بطاقة هويته أن ديانته هي المسيحية، ولا يمكن أن يكون المسيحيون مطالبين بالاعتذار عن كل موتور يخطىء في حق الأديان.أياً كان مكانه في العالم. والأهم من قصة فيديو زكريا بطرس، هو لماذا حدث ما حدث؟ فنحن يومياً نستمع لمقاطع مرئية للهارب إلى قطر الشيخ وجدي غنيم، يسب المسيح والمسيحية ويتوعد المسيحيين، ولا نرى اعتذارات، ولا يحزنون.

هذا بخلاف التكفير المستمر الذي حدث سابقاً من قيادات أزهرية على اعتبار أن كل غير مسلم هو كافر، وفسرها الشيخ احمد الطيب من قبل أنه كافر بالإسلام، ولم ينطق أحد، فالعلاقة بين الإنسان وربه ليست محلاً للتنظير والإنتقاء اللفظي، ولم نسمع حينها ايضاً اية اعتذارات، ولا طبطبة.

نعم نرى تضامناً عظيماً عند التعرض لهجوم ارهابي او استهداف قبطي على الهوية الدينية، لكن ألا تعرفون أن الوقت الذي تنطلق فيه كلمات التحريض ضد الأقباط تنطلق معها نوايا ارهابية تنتظر فقط الفرصة الأمنية السانحة؟ ألا تعرفون أن في الوقت الذي يتم فيه تكفير المسيحيين لم يتم تكفير “داعش”، هذا يدلنا لماذا كانت موجة الاعتذارات مبالغاً فيها.أنه الخوف، فمتي يأتي وقت الحب النقي من رهاب الإرهاب؟ فالحب للندية، والخوف للذمية.

إنه الخوف من العقاب الجماعي، وآه لو تعلمون ما العقاب الجماعي الذي عانى منه الأقباط على مدارالعقود الفائتة، وأقول هذا ايضاً ليس لاجترار الآلام، ولكن لتوضيح الفارق بين النفسية التي عاشت بالخوف لعقود، والنفسية التي تعلم أنها ليست مسؤولة عن أخطاء الكون، فالمسلمون يعلمون جيداً أن ما يقوله وجدي عينم أو أي من شيوخ الفتنة لن يحرك ساكناً، ولن يؤثر في قلوب الأقباط تجاه إخوتهم المسلمين، ولن يؤثر في مكانة المسيحية، ولن ينتج عنفاً مقابل الإهانة، ولن يسفك دماً، أو يفرز تصنيفاً يهدد بالتهجير القسري، لذلك لا أحد يهتم بدعاوى التحريض والتهييج التي يصدرها ذلك المعتوه الهارب أو أمثاله ، بل ويرى بعض المثقفين المسلمين، أن أي حديث عن اولئك الموتورين هو إعادة تدوير لأفكارهم.

أما المسيحيين الذين يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن غسل وجه المسيحية من كلام زكريا بطرس، فإنهم دون قصد أعادوا تدوير الأفكار التي يحتوي عليها المقطع المرئي المشار اليه، بل وأثاروا حفيظة المتربصين بمبالغاتهم. في حين أن المنطق الصحيح يقضي بأن يحترم المسيحيون مشاعر اخوتهم المسلمين، ويحرصون كل الحرص عليها من أي تجريح، لكن الأقباط في النهاية ليسوا في موقف المتهم، والحساسية المبالغ فيها غير متوازنة، فالمسيحيين والأقباط في العالم كله، ليسوا وحدة واحدة، بل أشخاص مستقلون يحيون في دول مختلفة، لا يتوجب عليهم أبداً دفع تكلفة أفكار الآخرين، وإلا لصار الكل مطالباً بالاعتذار عما يتم في حق المسيحيين ايضاً في لبنان وسوريا وفي كل بقاع العالم على ايدي تنظيمات تنسب نفسها للإسلام.

دعونا نتصارح، في كل يوم يتم سب الأديان كلها، في كل مكان على وجه البسيطة، ولا تحدث ردة فعل همجية تتوعد أصحاب دين بعينه، دعونا نتصارح ايضاً، السيد المسيح سبوه وأهانوه وطردوه وصلبوه، وقال جئت الى خاصتي وخاصتي لم تقبلني، والنبي محمد تعرض للإهانة من أقرب أقربائه حينما أعلن النبوة، كل الرسل تعرضوا للإهانات والسب والتعذيب والقتل ايضاً، فمتى كان الأنبياء بمنأى عن ذلك؟ أبداً لم يحدث أن حل عصر بغير لغط ضد الأديان والانبياء، وبالرغم من ذلك لم تختفِ الأديان، ولن تختفي، ولم تتوقف الحياة عند تبجيل او إهانة، فدعونا نمضي ولا نتوقف عند جدلية نشأت منذ الأزل وستظل للأبد.دعونا نمضي نحو العيش المشترك على اساس الإنسانية ونترك الايمان في القلوب، دعونا نمضي نحو علاقات مواطنة سوية، تحتمل المسؤولية عن الاخطاء التي ترتكبها، وتتجاهل فخاخ التشتيت والتحريض، دعونا نمضي نحو ندية الحب، ونتخلى عن ذمية الخوف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *