حسين جعفر يكتب عن أم كلثوم في ذكرى رحيلها: «أعطني حريتي أطلق يديا».. حينما كتب شيخ الأزهر أنها «نعمة من نِعم الدنيا» (3/3)

وقفت أم كلثوم أمام كبار المطربين وقفة الند للند ثم «ركنتهم على الرف» واستفردت بالشعب المصري وسطت على أسماع كل العرب من المحيط إلى الخليج.

رأى محمود عوض إن سحر أم كلثوم يتركز أولا في شخصيتها وثانيا في صوتها.. «صوت أبعاده من 60 إلى 16 ألف ذبذبة في الثانية بينما أقوى صوت يليها يصل إلى 10 آلاف ذبذبة فقط»

في رأي العقاد «أم كلثوم» المطربة الموهوبة التي أثبتت أن الغناء فن روؤس وقلوب وليس حناجر وأفواه فحسب فهي تفهم ما تغنيه وتشعر به وتعطيه من عندها نصيبا وافيا

أم كلثوم غنت للملك كما غنت لعبد الناصر.. واكتشفنا من خلالها أن هناك من يتحدث أو يغني للحرية وهو لا يعرف معناها وأن هناك فرقا بين ما تقوله وبين ما تؤمن به

لم تكتف أم كلثوم بقراءة دواوين الشعر وأمهات الكتب، ولكنها تعلمت إلى جانب اللغة العربية، الفرنسية والإنجليزية وإن كان حظها من الثانية أقل، ثم تعلمت عزف العود على يد، أمهر عازفي العود وقتها، أمين المهدي، وحاولت تلحين أغنيتين لأحمد رامي “على عيني الهجر دا مني”، و”يا نسيم الفجر ريان الندى”، ولكنها فشلت فشلا ذريعا، فقالت: “إنني أرى أن الإنسان عليه أن يرغم نفسه على التخصص”، كما فشلت أم كلثوم أن تكون ست بيت، وفشلت أن تكون أما، وهذا الفشل الثالث، لم يكن بيدها، إنها إرادة الله. 

شيخ الأزهر: أم كلثوم نعمة من نِعم الدنيا

كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر، مقالا عنها، في جريد السياسة، قال فيه: “إن أم كلثوم نعمة من نِعم الدنيا”. وتصف أم كلثوم في مذكراتها شعورها، بعد قرائتها لرأي شيخ الأزهر فيها: “هذا أول مقال صحفي أعتز به في حياتي الفنية، وما زلت حتى اليوم أشعر نحوه بوفاء بالغ، وبعد فترة بدأت ألتقي حظي”.

أسطوانات الآنسة أغلى من أسطوانات السيدة

سجلت الآنسة أم كلثوم أول أسطوانة لها من أشعار علي الجارم قصيدة”الحب والحرب” المعروفة بـ”مالي فتنت بلحظك الفتاك”، ألحان أحمد صبري النجريدي، وتقاضت عليها 8 جنيهات، رغم أن الشركة المنتجة كسبت من ورائها مكاسب كبيرة، ما جعلها تطلب في اسطوانتها الثانية 50 جنيها، في الوقت الذي كانت تتقاضى فيه سلطانة الطرب منيرة المهدية 40 جنيها، وثالث أسطوانة أغنية “إن كنت أسامح وانسى الأسية” من أشعار أحمد رامي وألحان القصبجي ووزعت نصف مليون نسخة، كما تقول أم كلثوم، ولكن الكاتب الصحفي كمال النجمي في كتابه “تراث الغناء العربي” يقول:” أسطوانة إن كنت أسامح وانسى الأسية وزعت مليون نسخة”، ويضيف:” بعدها أسرعت كل المطربات وقتها إلى القصبجي ليلحن لهن أغنيات مثل أغنية أم كلثوم، ومن هؤلاء المطربات منيرة المهدية، وبالفعل لحن لهن القصبجي، ولكنهن فشلن، خاصة منيرة المهدية فقد رآها الجمهور تحاول تقليد أم كلثوم”.

وقفت أم كلثوم أمام كبار المطربين وقفة الند للند، رغم أنها سبقتهم إلى أسماع وقلوب المصريين، ثم “ركنتهم على الرف”، واستفردت بالشعب المصري وسطت على أسماع كل العرب، من المحيط إلى الخليج.

صوت أم كلثوم في ميزان الكتاب والنقاد

“سحر أم كلثوم يتركز أولا في شخصيتها، وثانيا في صوتها، صوت أبعاده من 60 إلى 16 ألف ذبذبة في الثانية، بينما أقوى صوت يليها يصل إلى 10 آلاف ذبذبة فقط، وهذه حقيقة علمية”، هذا ما سطره الكاتب الصحفي محمود عوض في كتابه” أم كلثوم التي لا يعرفها أحد”.

التقى العقاد الكاتب محمود تيمور فسأله تيمور هل سمعت صوت الفتاة البدوية فقال ومن تكون الفتاة البدوية، فقال له اسمها أم كلثوم، فسأله وهل هى فعلا بدوية، فكان جوابه ستعرف عندما تراها، ثم ذهب العقاد وسمع أم كلثوم وخرج ليقول: “إنها المطربة الموهوبة التي أثبتت أن الغناء فن روؤس وقلوب وليس حناجر وأفواه فحسب، فهي تفهم ما تغنيه وتشعر بما تغنيه، وتعطيه من عندها نصيبا وافيا إلى جانب نصيب المؤلف ونصيب الملحن”.

وفي كتابه “ذكريات لا مذكرات”، يقول ثروت أباظة: “كنت في العاشرة تقريبا عندما زارتنا أم كلثوم في قريتنا، ولا أستطيع أن أنسى ليلة اجتمعنا فيها حولها وراحت أم كلثوم تغني دون موسيقى، وكانت نهاية تلك الليلة جديرة بها، وحين أدركت أن الفجر قد شق اليوم الجديد قامت وقمنا وراءها وخرجت إلى شرفة البيت وبأجمل صوت سمعناه أذّنت أم كلثوم لصلاة الفجر، وبيتنا في القرية يبعد عن بيوت القرية بمسافة لا تقل عن الكيلو متر، ولكن أهل القرية استيقظوا على صوت داعية السماء المعجزة، وتقاطروا تتقاطر منهم أمواه الوضوء، ووقفوا صفوفا يستمعون إلى أجمل آذان سمعوه في حياتهم، ثم اتجهوا للصلاة”.

ويقول الناقد فيكتور سحاب في كتابه “السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة”:” أم كلثوم هى التي عاندت أحكام الأسطوانة، ومددت عمر الأغنية المسرحية الطويلة، فيما بدا أن الحكم بزوالها قد صدر”.

غنت للملك كما غنت لعبد الناصر.. وكله عند العرب غناء

رغم اعترافنا بأننا سهرنا مع أغاني أم كلثوم وعليها، وعشنا قصص عشقنا الأول والأخير من خلال أنغامها الحريرية، رغم متعتنا بصوتها، إلا إننا نستطيع أيضا أن نقول بـ”الفم المليان” أنها لم تعلمنا الحرية، لأننا اكتشفنا من خلالها أن هناك من يتحدث أو يغني للحرية وهو لا يعرف معناها، وأن هناك فرقا بين ما تقوله وبين ما تؤمن به، هناك فرق كبير بين أن تمارس حريتك وحدك لأنك فرد من أفراد السلطة، وحاكما من حكامها، هناك فرق بين أن تمارس حريتك بسلطتك، وتمنعها عن غيرك، أو لا تحاول مساعدة غيرك في تحقيقها. نعم أغلب رجال الدين والفنانين والساسة هم من يحكمون الشعوب، وكل منهم يُخدّم على الآخر، فحين طلعت قصيدة “الأطلال” بصوت أم كلثوم 1966، كان الشعب يسب ويلعن عبد الناصر، بسبب آلاف المعتقلين، وظلم وجبروت رجال حكمه، وحين أبلغه كمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي بذلك، وهما من أعضاء مجلس قيادة الثورة، المشاركين بقوة في خلع الملك وخلع العبودية عن مصر، استنكر عبد الناصر كلامهما – راجع مذكرات البغدادي الجزء الثاني – ولم يكن ذلك بخاف على الصديقة المقربة لرجالات الثورة والمطربة التي صوتها وصيتها ملأ الآفاق.

حين غنت أم كلثوم قصيدة الأطلال، كانت قد ضمت إليها ثلاثة أبيات ــ في محاولة للتوفيق أو التلفيق ــ من قصيدة أخرى للشاعر نفسه إبراهيم ناجي، قصيدة الوداع، وكان الشاعر وقتها متوفيا لا يستطيع أن يوافق أو يرفض ما فعلته أم كلثوم بقصيدتيه، خصوصا وأن المطربة نجاة علي كانت سبقتها، وغنت قصيدة الوداع كاملة بألحان محمد فوزي، قبل أن تغني منها أم كلثوم الأبيات، التي يقول فيها ناجي: “هل رأى الحبُّ سكارى مثلنا، كم بنينا من خيالٍ حولنا، ومشينا في طريق مقمرٍ، تثبُ الفرحةُ فيه قبلنا، وضحكنا ضحك طفلينِ معًا، وعدونا فسبقنا ظلنا”. يمكن التغاضي عن تغيير كلمة أو كلمتين من كلمات الأغنية أو القصيدة، مثل تغييرها يا فؤادي رحم الله الهوى إلى يا فؤادي لا تسل أين الهوى، لكن أن يتم الاعتداء على القصيدتين والانتقاء من هنا ومن هناك فهذا ليس مقبولا، حتى وإن كان الانتقاء مستساغا لأن قصيدة الأطلال ليست بقافية واحدة.

كانت أم كلثوم تحيي حفلا بدمشق في الخمسينيات من القرن الماضي والتقت الشاعر السوري بدوي الجبل، اسمه الحقيقي محمد سليمان الأحمد، وطلبت منه أن تغني قصيدته” شقراء” فوافق، ولكنها طلبت منه أن يغيرها لـ”سمراء” فرفض، لأنه كتبها في شقراء ولم يكتبها في سمراء، وانتهى اللقاء، ولكنها عادت وزارته ثاني يوم في منزله بصحبة محمود رياض، سفير مصر بدمشق، ذلك الوقت، وأعادت طلبها السابق مع تصميمها على تغيير مفردة شقراء لسمراء لكنه رفض أيضا، فخرجت غاضبة.

كبرت أم كلثوم، بعدما خاضت معارك هنا وهناك، كان يمكن أن توقف مسيرتها الفنية أو تعطلها. كبرت وتضخمت وزادت ثروتها واشترت 80 فدانا في قريتها، وانتقلت من شقة في حي عابدين إلى فيلا بالزمالك، ومع قيام الثورة، غنت لها، وغنت لجمال عبد الناصر”بالسلام احنا بدينا بالسلام”، و”طوف وشوف”، كما غنت للملك فاروق” الملك بين يديك فى إقباله عوّذت ملكك بالنبى وآله”، حتى تصل بها الدرجة لأن تمدحه بما ليس فيه، فتغني:” فاروق جمّلها وزان ضفافها عرش يلوذ الشعب تحت ظلاله”، وكله عند العرب غناء.

“إوعى تتكلم”.. أم كلثوم ترفع سماعة التليفون تحبسك 

الفن لا يرد عليه بغير الفن، والرأي لا يرد عليه بغير الرأي، والفكر لا يرد عليه بغير الفكر، ولا يمكن لمبدع حقيقي أن يمنع أو يقصف قلما، أو يخرس صوتا، ولا يقبل منه المشاركة في ذلك حتى لو بالصمت.

أصبحت أم كلثوم سلطة، تمنع وتمنح، وصارت لها كلمة في الحكومة، كما يقول الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، وحينما عض كلبها طالبا من إحدى القري، مثل القرية التي جاءت منها أم كلثوم، أقفلت النيابة المحضر، قائلة:” إن الخدمات التي قدمتها أم كلثوم للدولة كفيلة أن تعفيها وكلبها من المسئولية الجنائية”، وعندما كتب نجم قصيدته كلب الست، وسمعتها أم كلثوم قالت، هاخرب بيته، قالت هاشرده، قالولها متشرد جاهز، قالت هاسجنه، ويقول الشاعر أحمد فؤاد نجم: “القصيدة دي ودتني في داهية، بعدها علطول ع السجون”. 

رابط قصيدة كلب الست:

 (https://www.youtube.com/watch?v=_0bu384JHhQ)

ليس هذا ما كان يفعله الملك، قبل الثورة عليه، مع منتقديه، مصطفى لطفي المنفلوطي والعقاد نموذجا، ثم نفي بيرم التونسي 19 عاما خارج مصر، هل تغيّرت مصر بعد الثورة؟!

تقول الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها”أم كلثوم وعصر من الفن”:” كان هناك فنان يعمل في التليفزيون المصري، يقدم برنامجا فكاهيا وفكر أن يقلّد أم كلثوم في أغنية” يا ظالمني”، فاتصلت كوكب الشرق بمراقب البرامج، وطلبت عدم عرض البرنامج، فاستجاب المراقب، واستدعي الفنان وقال له:” اقتصر على تقليد فلانة وفلانة لكن إياك وتقليد أم كلثوم”.

أم كلثوم بنت نكتة.. بس العجول اللي تفهم

عرفت أم كلثوم بخفة دمها بين المقربين إليها، وكثيرا ما كانت تداعب القصبجي، بنكتة هنا وطرفة هناك، وكذلك الفنان الكوميدي إسماعيل ياسين، ولأحد كبار عائلة الأباظية، حتى وصلت مداعابتها للجماهير.

كان الملحن محمد القصبجي يصبغ شعر رأسه دوما، وفي مرة قالت له أم كلثوم: “ما كفاية صبغة بقى يا قصب راسك بقت ختّامه”. ومرة أخرى نسى القصبجي أن يصبغ شاربه، وكان مسافرا مع الست بالقطار، فأخرج قلما أسود وراح يصبغه، وبعدما انتهى قالت له أم كلثوم شوف الراجل العجوز رجع شاب بجرة قلم”.

ويقول الكاتب الراحل ثروت أباظة: “إن أجمل نكتة سمعها من أم كلثوم، وهذه النكتة انتشرت كل لسان، وهى نكتتها على قريب لهم كان مقيما في الريف اسمه السيد حسن أباظة، الذي كان يحب أن يمازح الناس وكان مزاحه في غالب الأمر شتيمة، وكانت أم كلثوم تحب أن تمازحه، وتستخف دمه، فكان إذا جاءت إلى قريتنا غزالة يأتي فيقيم في بيتنا طوال المدة التي تقضيها أم كلثوم، وحدث أنها نظرت إليه طويلا، بعد نوبة سباب انهال بها عليها، ثم قالت له:  يا سيد بك، ودون توقع منه قال لها في وقاحة:” نعم يا بنت الشيخ إبراهيم”، فإذا هى تقول له في بساطة: “شنبك متربي أحسن منك”.

كانت أم كلثوم في إحدى زياراتها للإسكندرية بصحبة أحمد رامي ورياض السنباطي، وقابلوا إسماعيل ياسين، في إحدى الصيدليات في محطة الرمل، وبعد تبادل التحيات، لفت نظر أم كلثوم وقوف سمعة بجوار الميزان الآلي، فسألته عن وزنه، فرد وقال : زي الفل 78 كيلو فقط لا غير، وهنا اندهشت كوكب الشرق وقالت: مش معقول.. لازم اتوزنت من غير بقك. 

وأصر إسماعيل ياسين على أن تزن نفسها هي الأخرى، ورفضت أم كلثوم، بعد تحذيرات رامي لها بأنه يتميز بسرعة البديهة وخفة الدم، وما من شك أنه عايز يردلها اللي حصل في نفس اللحظة، وبعدما لاحظ نجم الكوميديا ترددها ثم رفضها، أجاب سريعاً: أكيد سيبتي صوتك في مصر وخايفة توزني نفسك من غيره.

كانت كوكب الشرق تحيي حفلة بمحافظ البحيرة، ولهجة أهل البحيرة تنطق حرف( القاف ) جيم، فيقولون مثلا( جليل ) ويقصد بها ( قليل )، وكانت أم كلثوم تغنى، وكل فترة يقف أحد المستمعين ويقول لها بصوت عال:” يا جاموس الطرب يا ست”، وهو ما أغضب الست، حتى أنها تركت المسرح، ودخل منظم الحفلة مع مسئول حكومي للسيدة أم كلثوم للاستفسار عما ما حدث، فقصت لهما ما حدث فضحك المسئول وشرح لها الموقف بأن كلمة جاموس الطرب يقصد بها قاموس الطرب، والرجل يقصد مدحها، فعادت إلى المسرح وغنت، فقام الرجل نفسه يحييها “يا جاموس الطرب يا ست”، فقطعت الغناء، وردت عليه “بس العجول اللي تفهم”، تقصد العقول!

وأخيرا يا عزيزي القارئ، نسمع كوكب الشرق ونستمتع بأغنياتها، ونعترف بكافحها وموهبتها ونعجب بها، ونقول لها تاني يا ست، ولكن من حقنا أن نختلف معها ونعترض عليها وننتقدها، ونرفض بعض مواقفها ونتفق مع بعضها، فلا أحد مهما كان وعلا شأنه فوق النقد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *