جمعة رمضان يكتب: يوميات ثائر في الأسواق!

 يستهويني الدخول إلى سوق الخضار دائمًا من ناحية شارع الصاغة المتقاطع معه، والسر في ذلك مردّه إلى أن دخولي الأول لشارع الصاغة كاد يفضي إلى جناية بعد أن خدعني صديق وأعطاني ذهباً مغشوشاً كي أصرّفه له، أما الدخول الثاني فقد أفضى وقانا الله وأياكم إلى جوازة ومن ثم إلى رول محكمة الأسرة، ومن يومها وأنا اتحرى دخول سوق الخضار عبر شارع الصاغة كي أحصن نفسي الوقوع في ثالثة الأثافي، كما وألزمها حرصاً وحذراً يعصماني كيد البائعات، وبعضهن ذوات لطافة ودلال قد يعجزانك التفرقة بين الخس والملوخية !

 يوم الخميس الماضي ساقتني قدماي قاصدًا سوق الخضار مروراً بشارع الصاغة محملاً بالحذر والحرص اللازمين كيفما اتفق لشراء حاجة البيت من لحوم وخضار وخلافه لزوم طبخة الخميس الأسبوعية اليتيمة كشأن معظم المصريين ضحايا الانجازات، توقفت لبرهة أمام فرشة (استغفر الله) الخيار البلدي الذي لم يكن مدرجًا في بند المشتروات يحدوني عشم أن أبتاع منه ولو نصف كيلو لتفخيم طبق السلاطة، لكن ولسوء البخت حال البند والأسعار والميزانية المحسوبة بدقة دونه، حتى إذا هممت بالانصراف صوب الجزار لمحت تجمع كثيف لنسوة يتزاحمن حول بائع يصيح على بضاعته،( تلاتة بعشرة يا طرح الجزاير يا ورور )، تبين لي عندما اقتربت انها كومة هائلة من القثاء (الأته)، تهللت الأسارير واطمئن القلب كون البائع رجلاً واطمئن أكثر كون بضاعته طيبة لا شبهة فيها ومذكورة أيضًا في القرآن !

 استعنت بالله واخترقت الغيمة السوداء الملتفة حول كومة الأتة، أخذت كيسي يخامرني شعور بالامتنان تجاه (خيار) الأقدار الرحيمة، جاهدت عبثاً كي التقط الزر الرفيع المسحوب بحسب نصيحة الجدة عليها رحمة الله، لكن هيهات وسط تدافع الاجساد وتزاحم الايدي، بدا المشهد أشبه بصراع البسطاء حول كراتين المواسم الانتخابية يتخطفنها من بعضهن البعض لدرجة أن احداهن نازعتني زراً معقولاً استحسنته على مضض بعد عناء، وقد تخشبت يداها على الزر المسحوب حتى ظننت بالأتة مظنة أدعياء التأسلم بالخيار، لكني سرعان ما حوقلت واستغفرت ربي وصرفت سوء الظن عن ذهني والنزاع لا يزال قائمًا على زر الأته يكاد يتطور إلى شجار عنيف تحاشيته سريعاً بعدما أبدى غريمي عزمًا وشراسة قل نظيرها في ساحات الصراع قبل أن تتدخل رفيقتها : يا أستاذ يا عايق انت، الاتة دي حرشة متنفعكش !!.. ( بدت لي اهانة ذات مغزى ابتلعتها على مضض طلبًا للنجاة) .

خرجت مهزومًا من موقعة الأتة الفاشلة ألملم ما تنسل من ياقة قميصي العتيق وماتفتق من أزراره، أصب لعناتي على الأتة والخيار والإختيار والسوق واقتصاد السوق الذي جعل من الردئ الرخيص “خيار الضرورة”، موليًا وجهي صوب القصّاب (الجزار) على طرف السوق يسبقني الشغف إلى قطعية من الدوش الدسم أو من طرف الجناح اللذيذ .

من بعيد ومن طوله الفارع وبشرته الصهباء بدا لي أنه صديقي رفيق ثورة يناير خفيف الظل – الثرثار احيانًا- والذي انقطعت أخباره منذ مدة طويلة، تقريباً منذ احداث ” 30 / 6 ” وما تلاها من أحداث، اذ كان لديه موقف مختلف عن كل الرفاق مع اصرار عجيب على رفض ما يجري رغم عداوته التاريخية للإخوان، أذكر له عبارة كان يطلقها في وجوهنا حين كنا ندعوه للمشاركة : “يغور اللبن من وش القرد” مستبدلا كلمة وش القرد بمؤخرته ومصحوبة باشارة من إصبعه توصف بالبذيئة يستوعد بها المشاركين في قادم الأيام ! .

تيقنت انه صديقي الظريف بعدما اقتربت أكثر منه وقد دخل في شجار لا يخلو من دعابة مع الجزار اعتراضاً على سعر فردة الكارع الواحد الذي جاوز الـ ١٢٠ جنيه، انتحيت جانبًا أتابع ذلك الشجار البروتيني الصاخب منتظرًا النتيجة، ولأنه لحوح وحتتي وفي نفس الوقت خفيف الظل فقد انتهى الشجار بتسوية مرضية بعد أن تعطف الجزار ومنحه هبرة من لحم رأس العجل مع مخاصيه فوق البيعة .

ما أن تنّبه صديقي لوجودي حتى أطلق ضحكة مجلجلة أتبعها بالأحضان والبوس قبل أن يهمس في اذني بخفة ظله وسخريته المعتادة ، هاااه ، أخبار الصب الحكومي ايه يابرنس؟ مال شكلك مبهدل ووشك أصفر ولونك مخطوف ليه يا وحش الميدان؟ ألم تجد من يحنو عليك ويرفق بك؟.. لم يمهلني كي أشرح له قصة الخيار ونجاتي بأعجوبة من صراع الوحوش الذي لا يزال محتدمًا هنالك حول كومة الأتة.. واستمر على إيقاعه الساخر: اسمع، بقولك ايه يا صاحبي، جوز المخاصي دول هدية مني ليك، تاخدهم تحمرهم في حبة سمن بلدي وجرّي عروقك بيهم، احنا في يونيه، عارف يعني إيه يونيه؟ .. يعني أوله نكسه وآخره تلبيس، والنهاردة الخميس عيد ميلاد أبليس، وكل تمرد وانت طيب يا عريس، هكذا خرجت كلماته الموزونة تفيض بالسخرية والوجع وكأنها زخات سلاح سريع الطلقات قبل أن يمد يده في كيسه ويخرج خيارة ثم يناولني اياها قائلا: خد متتكسفش، وافتكر دايما أن الثورة زي الخيارة، في يناير تبقى في ايدك وفي يونيه تبقى في عينك (مشيها عينك)، ثم حمل أكياسه ومشى حتى اذا ابتعد امتار قليلة استدار صائحًا: استحلفك بالله يا صاحبي ألا تنسى وضع الخيارة في عين طبق السلاطة !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *