العمال الفلسطينيون في قبضة الاحتلال: ماذا قال تقرير منظمة العمل الدولية في دورته (113) ؟

كتب – حسن البربري

في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي والإبادة الجماعية على الأراضي الفلسطينية وخصوصا في قطاع غزة، قدم المدير العام لمنظمة العمل الدولية تقريرًا مؤلمًا إلى الدورة 113 لمؤتمر العمل الدولي، تحت عنوان: “العمال في قبضة الحرب والاحتلال”.

التقرير لم يكن مجرد عرض لوضع اقتصادي، بل صرخة إنسانية في وجه العالم اجمع تعبّرعن انهيار مقومات الحياة للفلسطينيين بشكل عام، وتكشف حجم المعاناة التي يعيشها العمال في ظل الاحتلال والحصار المستمر بشكل خاص.

لم تبدأ معاناة العمال الفلسطينيين مع الحرب الأخيرة على غزة، بل تعود جذورها إلى ما بعد نكسة 1967، حين بدأ مئات الآلاف من الفلسطينيين العمل داخل الكيان الصهيوني ، خصوصًا في قطاعات الزراعة، والبناء، والخدمات منخفضة الأجر. منذ ذلك الحين، شكّلت علاقة العامل الفلسطيني بسوق العمل الإسرائيلي نموذجًا فجًا للتبعية والاستغلال، حيث تم حرمان العمال من التأمين الصحي والاجتماعي.

تعرض الكثيرون للفصل التعسفي دون تعويض، وانتشرت حوادث العمل القاتلة بسبب انعدام شروط السلامة، وغياب الرقابة، ومُنع العمال من تشكيل نقابات، واستُخدمت تصاريح العمل كأداة سياسية، تُمنح وتُسحب وفق مزاج أمني، مما جعل آلاف الأسر رهائن للابتزاز.

أما في الداخل الفلسطيني (غزة والضفة الغربية والجولان)، فقد عانى العمال من تداعيات غير مباشرة لكنها قاسية للسياسات الإسرائيلية أما في الضفة تم تقييد الحركة بالحواجز العسكرية، وعزل القرى بالمستوطنات، حرم العمال من الوصول إلى أماكن عملهم، وفرض عليهم العمل في ظروف عشوائية أو غير رسمية.

ففي غزة و الحصار مستمر منذ 2007، والقيود على إدخال المواد الخام والمعدات، أدى إلى انهيار القطاعات الإنتاجية وتسريح آلاف العمال، دون أي تعويض أو دعم اجتماعي.

وفي الجولان السوري المحتل  يواجه العمال السوريون سياسة تمييز ممنهجة، تحرمهم من فرص التوظيف في مؤسسات الاحتلال، وتمنع الاعتراف بشهاداتهم أو تمكينهم من العمل في المجال العام، ما يضطرهم للعمل في الزراعة بأجور متدنية ودون حماية قانونية.

سلّط تقرير منظمة العمل الدولية الضوء على الوضع الكارثي في قطاع غزة، الذي يواجه منذ أكتوبر 2023 واحدة من أعنف موجات العدوان الإسرائيلي، والتي لم تستهدف فقط السكان المدنيين، بل امتدت لتطال مقومات الحياة الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر ومنهجي. فقد تعرضت البنية التحتية الإنتاجية في غزة، من مصانع وورش وأسواق ومراكز خدمية، لدمار واسع النطاق، مما أدى إلى انهيار شبه كامل في الدورة الاقتصادية وسوق العمل المحلي.

وأشار التقرير إلى أن أكثر من 85٪ من العاملين اضطروا إلى التوقف القسري عن أعمالهم، ليس بفعل عوامل اقتصادية طبيعية، بل بسبب الاستهداف المباشر لمواقع العمل، وانعدام الأمن، وصعوبة الحركة، وتعطّل سلاسل التوريد والإنتاج. فعمال البناء والصناعة والحرفيين وسائقي النقل والعاملين في الخدمات، جميعهم وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها خارج سوق العمل، دون بدائل أو برامج حماية، في ظل منظومة حصار مشددة تمنع إدخال مواد الإنتاج أو المساعدات الكافية.

ولم يقتصر الأمر على فقدان العمل، بل تلاشى الدخل لدى غالبية الأسر، في وقت ارتفعت فيه الأسعار وندر فيه توفر المواد الأساسية، ما دفع بمعدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، جعلت من مجرد الحصول على الغذاء أو الدواء مسألة نضال يومي. ويعاني العمال، الذين كانوا يشكّلون العمود الفقري للنشاط الاقتصادي المحلي، من التهجير الداخلي، بعدما فقدوا مساكنهم ومصادر رزقهم في آنٍ واحد، وأصبحوا يعتمدون بشكل شبه كلي على مساعدات إنسانية شحيحة ومهددة بالانقطاع بسبب الحصار المستمر.

ويبرز التقرير كيف أن هذا الوضع يخلق حلقة مفرغة من التدهور، إذ لا توجد فرص لإعادة الإعمار في ظل غياب الاستقرار والأمان، ولا يمكن استئناف النشاط الاقتصادي دون إنهاء العدوان ورفع القيود المفروضة على غزة.

وفي غياب تدخل دولي حازم، يحذر التقرير من أن غزة تتجه نحو انهيار اقتصادي واجتماعي تام، ستكون له تداعيات بعيدة المدى على الأمن الإقليمي والكرامة الإنسانية لشعب بأكمله يُحرم من حقه في العمل، والحياة الكريمة، والمستقبل.

لا تقل الأوضاع تدهورًا في الضفة الغربية عنها في قطاع غزة، بل إنها تمضي في مسار تصعيدي أقل ضجيجًا إعلاميًا وأكثر اتساعًا من حيث التأثيرات البنيوية على سوق العمل والاقتصاد الفلسطيني ككل. فقد استعرض تقرير منظمة العمل الدولية القيود المتزايدة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على حركة العمال الفلسطينيين، لا سيما أولئك الذين كانوا يعتمدون في معيشتهم على فرص العمل داخل أراضي عام 1948.

وبحسب التقرير، أدت الإجراءات الإسرائيلية المشددة، من إغلاقات متكررة، واشتراطات أمنية تعسفية، وتضييق على إصدار التصاريح، إلى فقدان ما يقارب 150 ألف عامل فلسطيني لمصدر رزقهم المباشر، ما أوقع الاقتصاد الفلسطيني في حالة شلل جزئي، وتسبب في خسائر تُقدّر بمليارات الدولارات سنويًا.

تضاعف هذه الأزمة معاناة الأسر الفلسطينية التي تعتمد بشكل أساسي على دخول أبنائها العاملين داخل الخط الأخضر، كما أثرت بشكل عميق على القطاعات الاقتصادية المحلية في الضفة، حيث انخفض الاستهلاك، وارتفعت نسب البطالة، وتراجعت معدلات الإنتاج والنمو. وتتحول هذه الأوضاع يومًا بعد يوم إلى أزمة مزمنة، بفعل السياسة الإسرائيلية التي توظّف الإجراءات الأمنية لتكريس واقع اقتصادي هشّ، قائم على الارتهان والتبعية، لا يتيح أي أفق حقيقي للتنمية المستقلة.

ولم يغفل التقرير الأثر المدمر لاعتداءات المستوطنين، التي تصاعدت وتيرتها بشكل غير مسبوق خلال العام الماضي، في ظل حماية وتواطؤ من سلطات الاحتلال. فقد استهدفت هذه الاعتداءات الأراضي الزراعية والبنية التحتية القروية بشكل ممنهج، مما حرم آلاف المزارعين من حقهم في العمل ومن مصدر رزقهم الأساسي، وأدى إلى تآكل الإنتاج الزراعي المحلي وتراجع الأمن الغذائي في مناطق واسعة من الضفة الغربية.

أما في الجولان السوري المحتل، ورغم ندرة التغطيات الإعلامية حول الأوضاع هناك، فقد حرص التقرير على إبراز واقع العمال السوريين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي. هؤلاء العمال يواجهون سياسات تمييزية ممنهجة، وتهميشًا اقتصاديًا متعمّدًا، وغيابًا لأي سياسات تشغيل عادلة أو برامج حماية اجتماعية، كما أن سياسات الاحتلال الساعية إلى طمس الهوية السورية في الجولان وتقييد التنمية المحلية تحرم السكان من فرص العمل اللائق، وتعزلهم عن أي مسارات اقتصادية مستدامة، في ظل تغييب دولي يكاد يكون كاملاً عن قضيتهم.

بهذا، يرسم تقرير منظمة العمل الدولية صورة شاملة للواقع المتدهور في الأراضي المحتلة، مشيرًا إلى أن الحديث عن “الاقتصاد تحت الاحتلال” لم يعد توصيفًا تحليليًا، بل وصفٌ دقيق لحالة ممنهجة من الإفقار والعزل، تُستخدم فيها السياسات الاقتصادية كأدوات للهيمنة، وتُدفع أثمانها يوميًا من أعمار وكرامة وحقوق العمال الفلسطينيين والسوريين على حد سواء.

أوضح التقرير أن البطالة في بعض المناطق الفلسطينية بلغت مستويات صادمة تجاوزت 70٪، في ظل انهيار شبه تام لسوق العمل، وخاصة في قطاع غزة، حيث قُدِّر عدد النازحين داخليًا بأكثر من 1.9 مليون شخص، يعيش معظمهم في مراكز إيواء مؤقتة تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، كالمياه النظيفة والكهرباء والرعاية الصحية، ما يفاقم من هشاشة الأوضاع الإنسانية والاجتماعية ويزيد من تعقيد فرص التعافي

هذا الواقع المأزوم دفع آلاف الشباب الفلسطيني إلى خيارات قسرية تتراوح بين محاولات الهجرة غير النظامية بحثًا عن حياة كريمة خارج حدود الوطن، أو الانخراط في أعمال غير آمنة أو غير نظامية، تُعرّضهم للاستغلال وتنتهك حقوقهم الأساسية في ظروف عمل لائقة، مما يفاقم من هشاشة الطبقة العاملة الفلسطينية ويدفع بها نحو مزيد من التهميش

وأكد التقرير أن غياب الحل السياسي العادل والشامل يبقى العائق الرئيسي أمام أي تحسّن اقتصادي أو اجتماعي للفلسطينيين، فاستمرار الاحتلال والاستيطان، وتقييد حركة الأفراد والبضائع، والحصار المفروض على غزة، جميعها تمثل معوقات هيكلية تجعل من أي محاولة لإعادة الإعمار أو تحقيق تنمية مستدامة مجرد وهم، ما لم يترافق ذلك مع تحرك دولي جاد وفاعل لتفكيك هذه البنية القمعية

وشدد المدير العام لمنظمة العمل الدولية في ختام التقرير على أن إدماج مبدأ العدالة الاجتماعية يجب أن يكون شرطًا أصيلًا في أي تسوية سياسية مستقبلية، معتبرًا أن لا سلام يمكن أن يتحقق دون كرامة، ولا أمن دون عمل لائق يضمن للفلسطينيين سبل العيش المستقر والحر.

جاء تقرير منظمة العمل الدولية كوثيقة إنسانية وسياسية في آنٍ واحد، تجاوزت حدود الأرقام والإحصاءات لتشكل صرخة ضمير في وجه المجتمع الدولي، داعية إلى النظر العميق في الكارثة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني عامة، وطبقته العاملة بشكل خاص، في ظل حرب مفتوحة لا تُبقي ولا تذر، وتحت احتلال ممنهج طال أمده وتغلغل في مفاصل الحياة اليومية.

يركز التقرير على المعاناة المركّبة التي تحاصر العمال الفلسطينيين، فهم لا يواجهون فقط ظروف العمل القاسية، أو الانتهاكات التقليدية للحقوق النقابية والمعيشية، بل يعانون من قهر بنيوي متجذر في سياسات الاحتلال ذاتها، التي تمارس عنفًا مؤسسيًا ضد أبسط مقومات الحياة الكريمة. وتظهر المعاناة بشكل صارخ في قطاع غزة المحاصر، حيث أدت الحرب الأخيرة إلى دمار شبه شامل للبنية التحتية وفرص العمل، وأجبرت عشرات الآلاف من العمال على البطالة القسرية، وحوّلت كثيرين منهم إلى متسولين على أبواب المساعدات الإنسانية.

في هذا السياق، لا يتحدث التقرير عن إعادة الإعمار بوصفه مسألة هندسية أو مالية فقط، بل يُعيد تعريف المفهوم من جذوره، مؤكدًا أن الإعمار الحقيقي لا يبدأ بالإسمنت والحديد، بل بتحقيق العدالة السياسية والاقتصادية. فالحل لا يكمن في بناء ما تهدّم فقط، بل في معالجة الأسباب العميقة للدمار المستمر، عبر استعادة الحقوق الوطنية المشروعة، ورفع الحصار عن غزة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاصر الإنسان الفلسطيني من المهد إلى اللحد.

وعليه، يؤكد التقرير أن الحديث عن اقتصاد فلسطيني قابل للحياة لا يستقيم دون معالجة جذور الأزمة السياسية. فلا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة في ظل نقاط تفتيش تعرقل الحركة، ومصادرة أراضٍ، وهدم بيوت، وتقييد للموارد، وسيطرة إسرائيلية شبه كاملة على المعابر، والمياه، والكهرباء، والمعاملات التجارية.

فقط حين تتحقق هذه الشروط السياسية والحقوقية الأساسية، يمكن الحديث بجدية عن عمال فلسطينيين يتمتعون بفرص عمل لائقة، وبنظام حماية اجتماعية فعال، وبالقدرة على التخطيط لمستقبلهم، لا أن يعيشوا تحت رحمة التصاريح الإسرائيلية والقيود العسكرية اليومية.. التقرير بذلك ليس مجرد وثيقة توثيقية، بل نداء عاجل لتحرير العمل من الاحتلال، والعدالة من القهر، والحياة من سياسات التدمير المنهجي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *