الانفجار الصامت: كيف تنهار خزائن الاحتلال تحت وطأة الحرب الممتدة على جبهتي غزة إيران؟
كتب – يحيى الجعفري
منذ اندلاع المواجهة المباشرة بين الاحتلال الإسرائيلي وإيران، انفجرت أزمة مالية مركبة تضرب الخزينة العامة والأنشطة الاقتصادية الرئيسية في الأراضي المحتلة بما في ذلك الصناعة، والطاقة، والتحويلات المالية، والعملات الوطنية. ومع تتابع الضربات العسكرية وتوسّع رقعة المواجهة، يتضح أن المعركة الكبرى لا تُخاض فقط في السماء وعلى الأرض، بل في عمق الاقتصاد الذي يئن تحت وطأة الإنفاق الحربي، واضطرابات السوق، وشلل قطاعات الإنتاج.
ففي بداية المواجهة، أغرقت حكومة الاحتلال ميزانيتها في تمويل العمليات العسكرية. سارعت الحكومة الإسرائيلية منذ اللحظة الأولى إلى ضخ أموال طائلة لتمويل الحرب.
ووفقاً لما نشرته صحيفة الاقتصادية تايمز، وصلت الكلفة اليومية للعمليات العسكرية ضد إيران إلى نحو 725 مليون دولار. وتشمل هذه التكلفة تشغيل منظومات الدفاع المتقدمة مثل القبة الحديدية ومقلاع داوود، بالإضافة إلى طلعات جوية وتعبئة قوات برية. وأضافت الصحيفة أن تكلفة اليومين الأولين بلغت نحو 1.45 مليار دولار، ما يعادل نصف موازنة وزارة الصحة لعام كامل. وقد حذّر معهد آرون للسياسات الاقتصادية من أن استمرار الحرب على هذا النحو قد يُكلّف الخزينة أكثر من 12 مليار دولار شهريًا، مما يدفع الاحتلال إلى الاقتراض الطارئ أو المساس بأصوله الاستراتيجية.
وفي ظل هذا الإنفاق الهائل، خفّضت وزارة المالية توقعات النمو وأعلنت حالة التقشف. أعلنت وزارة المالية في حكومة الاحتلال بحسب ما أفادت بلومبرج، عن تقليص توقعات النمو الاقتصادي للعام الحالي من 4.3% إلى 3.6%، بسبب الأثر المتراكم للحرب على غزة والذي تضاعف مع التصعيد الإيراني. وقد أدّت هذه المعطيات إلى إطلاق حزمة إجراءات تقشفية تشمل تجميد مشاريع بنية تحتية وتأجيل زيادات رواتب موظفي القطاع العام. ونشرت صحيفة هآرتس أن العجز في الموازنة قفز إلى 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل أكثر من 34 مليار دولار، وهي نسبة غير مسبوقة منذ الأزمة الاقتصادية في أوائل الثمانينيات. كما نقلت الصحيفة عن مصادر رسمية أن الخطط السابقة لخفض نسبة الدين العام إلى 60% من الناتج المحلي باتت “طموحًا مستحيلًا”.
ومع تزايد الضغط المالي، استدعت الحكومة مئات آلاف الجنود من قطاعات حيوية. دفعت تل أبيب نحو 300 ألف جندي احتياطي إلى جبهات القتال، معظمهم من العاملين في قطاعات أساسية مثل البناء والزراعة والتكنولوجيا، وفقاً لما ذكرته صحيفة يديعوت أحرونوت. ما تسبّب في شلل كامل بسوق العمل، خاصة مع توقف العمالة الفلسطينية القادمة من الضفة الغربية وقطاع غزة. وأشارت تقديرات نشرها اتحاد الصناعات إلى أن الناتج القومي انخفض بنسبة 9% خلال أول أسبوعين، فيما شهدت الصادرات تراجعًا بنسبة 13%. وقد أُجبرت آلاف المصانع الصغيرة والمتوسطة على الإغلاق، فيما باتت شركات كبرى تُفكّر في نقل نشاطها إلى الخارج لتفادي الخسائر.
إلى جانب ذلك، توقفت حقول الغاز وانكمشت عائدات الطاقة. إذ أكّدت وكالة رويترز أن حقلي الغاز البحريين ليفياتان وكاريش أُجبرا على التوقف الكامل نتيجة لهجمات بطائرات مسيّرة، ما أدى إلى تعطّل صادرات الغاز إلى مصر والأردن، وخسائر مباشرة يومية تُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات. كما تعرّضت محطة حيفا للكهرباء لضربة قوية، مما أدى إلى إغلاق مصفاة تكرير النفط المرتبطة بها. وقد اضطرت الحكومة إلى شراء كميات كبيرة من الوقود بأسعار مرتفعة من الأسواق الآسيوية، لتأمين الحد الأدنى من تشغيل منشآتها الحيوية.
وفي سياق متصل، أربكت الحرب الأسواق العالمية ودفعت أسعار الطاقة للارتفاع. أفادت صحيفة فايننشال تايمز أن أسعار النفط العالمية قفزت بنسبة تجاوزت 7%، متجاوزة 80 دولاراً للبرميل. كما ارتفع الذهب بنسبة 4%، وانخفضت مؤشرات البورصات العالمية، لا سيما في أوروبا، نتيجة مخاوف من توسع الحرب وانقطاع إمدادات الطاقة من شرق المتوسط. ونقلت صحيفة الغارديان أن أسعار وقود الطائرات ارتفعت بنسبة 60%، مما دفع شركات الطيران الأوروبية إلى إلغاء رحلاتها إلى إسرائيل، وإعادة النظر في مساراتها الجوية.
توازيًا مع ذلك، استنزفت حكومة نتنياهو احتياطاتها النقدية وسط تحذيرات مالية متزايدة. و ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن الاحتلال أنفق نحو 60% من احتياطياته النقدية خلال أسابيع الحرب الأولى، في محاولة لتمويل العجز المتسارع وتغطية التكاليف الطارئة للعمليات العسكرية. وقد أدى ذلك إلى توتر في أسواق السندات، وقلق في أوساط المستثمرين الدوليين. حذّرت وكالتا موديز وفيتش من احتمال خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل إذا استمر الوضع الحالي دون أفق سياسي واضح. كما اعتبرت موديز أن النظرة المستقبلية لإسرائيل باتت “سلبية”، ما يعني ارتفاع كلفة الاقتراض الخارجي، وتعقيد عملية تمويل أي خطط إنعاش اقتصادي مستقبلية.
ومع فشل التدخلات العاجلة، لم تنجح السياسات الاقتصادية الطارئة في احتواء الانهيار. أشارت بلومبرغ إيكونوميكس إلى أن محاولات وزارة المالية تمرير خطط تحفيز اقتصادية عاجلة اصطدمت برفض داخل الكنيست. كما بدأت معدلات الفائدة على السندات الحكومية في الارتفاع، ما يعني أن أي اقتراض جديد سيأتي بتكلفة باهظة. وحذّر خبراء من دخول إسرائيل في دوامة “الركود المزدوج”؛ حيث يتزامن الانكماش الاقتصادي مع ارتفاع الدين العام، ما يؤدي إلى تآكل أدوات التحفيز المالي المتاحة.
ومن الطبيعي أن يتصاعد الغضب الداخلي مع تفاقم الأزمة الاجتماعية. ارتفعت الأصوات المنتقدة للحكومة، لا سيما في أوساط المعارضة داخل الكنيست، مع تصاعد أعداد المفصولين من العمل، وتراجع تقديم الخدمات العامة. وطالب نواب بإجراء تدقيق شامل على آلية توزيع الميزانيات في زمن الحرب. وأكد مركز السياسات الاجتماعية في جامعة تل أبيب أن نحو 42% من العائلات المتوسطة الدخل باتت مهددة بالنزول إلى خط الفقر في حال استمرار الحرب لعدة أشهر إضافية، ما يُنذر بأزمة اجتماعية أعمق من أي تهديد خارجي.
وفي الوقت ذاته، تراجعت الاستثمارات الأجنبية وتوقفت شراكات تكنولوجية. أعلنت عدة شركات رأس مال مخاطر أمريكية وأوروبية عن تجميد استثماراتها في إسرائيل، نتيجة الغموض الأمني. كما ألغت شركات تقنية كبرى مؤتمرات كانت ستُعقد في تل أبيب، وهو ما أشار إليه تقرير لصحيفة ذا ماركر التي وصفت ما يجري بأنه “نزيف صامت في قطاع الهايتك”.
وبشكل عام فإن تلك الحرب تكشف هشاشة الاقتصاد الإسرائيلي أمام الأزمات الطويلة. أثبتت المعركة الحالية أن الاقتصاد الإسرائيلي، رغم قوته التقنية، يفتقر إلى المرونة أمام الحروب الممتدة والمتعددة الجبهات. وتؤكد صحيفة هآرتس في تحليل مطول أن المشهد الحالي يُعيد إلى الأذهان أزمات سابقة مثل أزمة 1982 وكساد 2008، لكن الفارق أن الاقتصاد هذه المرة يواجه خصمًا لا يمكن توقع مداه الزمني ولا الجغرافي.
و تُجمع التحليلات الاقتصادية على أن المعركة الأخطر التي تواجهها حكومة الاحتلال اليوم ليست في الجنوب أو الشمال، بل داخل مراكز اتخاذ القرار المالي، وفي مدى قدرة الدولة على تجنب الانهيار الاقتصادي. اختبار البقاء هذه المرة لا يُقاس بعدد الطلعات الجوية، بل بحجم الاحتياطات النقدية، ومستوى الثقة الدولية، وقدرة الأسواق على استيعاب الهزات القادمة. في النهاية، تبدو الحرب ضد إيران بمثابة نقطة تحوّل في إدراك الإسرائيليين لما يعنيه الأمن الاقتصادي، وقد تكون هذه المعركة الحاسمة هي التي تُحدّد مصير الاقتصاد الإسرائيلي لعقود قادمة.